لا يخفى على أحد تدني نسب القراءة على مستوى العالم، ويزيد هذا التدني في البلاد العربية، فالمغرب كنموذج وحسب الأرقام التي أعطاها تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2009، والذي وضع المغرب في المرتبة 162 من أصل 180 دولة بمعدل قراءة يقل عن %50.5، وليس المغرب بأسوء حالا من نظيراته العربية التي تعاني الأمر نفسه، ففي تقرير أصدرته منظمة الفكر العربي جاء فيه أن متوسط ما يقرأه الفرد الأوروبي يبلغ حوالي 200 ساعة سنويا مقابل 6 دقائق لمتوسط الفرد العربي البالغ، أما عن متوسط القراءة الحرة للطفل فهي جد هزيلة لا تتعدى بضع دقائق في السنة حسب تقرير نشرته منظمة اليونيسكو، مقابل 12000 دقيقة لمتوسط ما يمضيه الطفل الغربي سنويا في القراءة.
هي معطيات تنذر بأزمة فكرية حقيقية تضاهي الأزمات الاقتصادية في العالم، بل يمكن القول على أن الأزمة الفكرية هي أحد أهم مسببات الأزمة الاقتصادية، فالإنسان الذي لا يقرأ بديهي ألّا ينتج وأن يضر الاقتصاد عوض نفعه، أو بتعبير صلاح بوسريف يصبح من "مجتمع الفرجة والإستهلاك".
وليس هذا تقريرا عن نسب القراءة أو مقارنة الدول بعضها ببعض في هذا المجال حتى لا يحسبه القارئ الكريم خروجا عن المقصود، فربطا بالموضوع الذي يصب في المحتوى المقروء لا معدل ما يُقرأ يحق لنا أن نتساءل إن كان الكثير لا يقرأ فماذا يقرأ القراء؟
الجواب يجد نفسه فيما يعرض من كتب على أرصفة شوارعنا ما دامت هي الكتب الأكثر مبيعا والأكثر وفرة والأقرب إلى كل قارئ بل والأرخص، بعناوين من قبيل "كيف تُرضين زوجك"، "كيف تكن ناجحا في علاقاتك"، "أسرار الحياة السبعة"، "تغلب على مشكلاتك العاطفية" ... أي أن معظمها محض روايات وكتب تنمية ذاتية، ولست أقدح في هذا الذوق أو ذاك بل أبحث عمًا قد يقدمه كل منهما من قيمة علمية وأدبية حقيقية، هذه القيمة التي أُقبرت في كتب موضوعة بأعلى رفوف المكاتب لا تبلغها إلا يد من آنس في نفسه نضجا فكريا.
ويبقى من قبيل الواضحات أن الذوق البشري أضحى متقاربا من خلال عملية "التنميط"، والتي لا يخفى على أحد دور عالم الأنترنت في تجسيدها والتسريع من وثيرتها، وما ذكرته من محتوى ما يقرأه المغربي والعربي كلل وما يُحصلهُ من معارف ينسحب على ما يقرأه المواطن الغربي والأمريكي بالخصوص، على اعتبار أن التقارير وضعته في الصدارة فماذا يقرأ هذا الأخير؟
الجواب دائما بالأرقام والتقارير المفصلة في الأمر، فأستشهد هنا بتقرير الموقع الحكومي الأمريكي Statista.com والذي وضع في صدارة المحتوى قصص غموض Mysteries، قصص رومانسية، قصص رعب، كتب صحة ورشاقة، كتب دينية، كتب سير ذاتية...، وذلك كما هو مبين بالصورة البيانية للتقرير بعده:
والشاهد هنا الكتب التي حققت أكبر المبيعات وعلى رأسها سلسلة هاري بوتر، هانغر غايم، بريكيت داون... هذا الأخيرة التي بيعت منها أكثر من 100 مليون نسخة حول العالم 48 مليون منها في الولايات المتحدة فقط.
فالإشكال إدا ليس يسيرا يقتضي الجواب بصيغة "ينبغي ويجب"، فهو إشكال عالمي تتداخل فيه عوامل سياسية، فكرية، اقتصادية وذاتية بالخصوص فالمحتوى والقيمة المضافة يحددها الباعث والذي يختلف من مجتمع لآخر بل من قارئ لآخر، الشيء الذي يبقى معه الحل هو العناية بالإنسان الفرد كحق، ليقابله بخدمته للأمة كالتزام، ودور الحكومات في ذلك هام ومحوري من خلال تحمل مسؤولياتها الكاملة، وأقصد بالحكومات الدولة المستمرة في الزمان لا السياسي الذي لا تتعدى رؤيته مدة ولاية أو ولايتين على الأبعد في تنمية الشعوب اقتصاديا بداية وفكريا نهاية، بكل ما تملكه من وسائل مستحدثة لهذا الغرض، فالفرد الذي بالكاد يُحَصّل رغيف الخبز منفقا كل ساعات النهار وبعضا من ساعات الليل وكثيرا من الجهد لن يُحمل نفسهُ أكثر لشراء كتاب لنفسه أو لدريته.
-
المصطفى الكاريإسمي المصطفى الكاري، 24 سنة طالب بسلك الماستر، تخصص القانون المدني والتوثيق. اتتبع منذ مدة ما ينشر من موضوعات هامة على مدونتكم القيمة، وارتأيت بدوري أن أسهم ببعض ما أكتبت إن رأيتم فيما أرسل لكم أنه يستحق النشر. وفِي انتظ ...