خرجَ من مأمنِه ، واستَلَّ ريشتَه ، وامتطى فنَّه ، في إثر إدبار خصمه ، فالتقيا في أقصى الطرف ، كلاهما استعان بحدّته ، وبلغا أقصاهما حقداً وجِدَةً ، فلم يفترقا حتى غرس كلٌ منهما في الصدر معوله ، فتباعدا لا صلحاً ، وليس كل فراق مفسدة ، أبعدا وكل سعى لمقتله .
صورةٌ مصغّرة تدور في أروقة حياتنا العربية ، لا علاقة لها بالفنّ ولا الإبداع ولا الثقافة ، هو مظهر سلوكي ، ينبع من غياهب ممارساتنا اليومية منذ زمن ، نتج عنه مفاهيم معوجّة في روح التنافس ، ومصداقية العلاقة ، وتفسير المقاصد ، وجمالية ردود الأفعال .
كم أتمنى أن تنبري مؤسسةٌ متجرّدةٌ لعمل دراسة تعايشيّة مع فئات متنوّعة من مجتمعاتنا العربية عبر زمن عمري يصل إلى عشر سنوات ، ليبدأ من سنّ التمييز في السابعة وحتى ما بعد المراهقة في السابعة عشرة ، تعامله وتصاحبه وتعاركه ، مباشرة وعن بُعد ، لتجيبنا بعد تحليل ما اجتمع لها عمّن يصنع فكره ، ومن يرسم طريقه ، وكيف تُحدد أهدافه ، ما الذي يؤثّر فيه ، وما الذي يتأثّر به ، كيف يجمع طموحه ، وأين يفرّغ طاقته ، ما علاقته بالآخر ، علام يبنيها ، كيف يصاحب في السراء ، وبما يتحلّى في الشدائد والضراء ، ما المؤثرات الشخصيّة عليه ، وكيف تؤثّر فيه ، ما التأثيرات البيئية المحيطة به ، وما مدى تفاعله معها .
إنّ حاجتنا في المستقبل لبناء أجيال تُحسن التعاطي مع الآخر ، مرتبطٌ بالرغبة التي نحملها الآن ، فالاهتمام بتأطير العلاقات ، ورسم معالمها ، ووضع الأهداف الممكنة القريبة والبعيدة ، واختيار الكفء المناسب للتفاعل معها وتحصيلها ، يعتبر من الرغبة الصادقة لبناء الجيل المنشود القادم ، وهذا هو أفضل الاستثمار الذي نرفع رؤوسنا به .
إننا بحاجة ملحّة للصبر على بلوغ الهدف ، كما نصبر على تنفيذ المشاريع الجماليّة الجمادية ، والبنايات الشاهقة ، فالاستثمار في بناء الإنسان ، وصقل جمالياته أولى وأجدر ، فنحن من يسعدُ باكتمال أخلاقياته ، ويستنير بإبداع أنامله ، ويأمن بتجليات علاقاته وتعاطيه مع الآخر .
من هنا فإنّ الرسالة التي نطمح في إيصالها لصغارنا وكبارنا ، لذكورنا وإناثنا ، لأصدقائنا وخصومنا ، هي أن نتعامل مع الآخر بمسارين اثنين ، وحالتين متقابلتين ،
الأولى: شخص الآخر ، فأعامله بحقوقه الإنسانية التي يشترك فيها جميع البشر الأبرياء ، فأتألّم لما يصيبه من جوعٍ وخوفٍ ومرضٍ ، وآنسُ لما أراه فيه من خير وسلام .
الثانية : قول الآخر وعمله وما يظهر منه ، فإن كان خيراً أخذت بأفضله ، وأشدتُّ به ، وإن كان غير ذلك حاورته بالحجة والبيان ، ولست ملزماً أن يحمل الذي أنا حامله ، فإنّما عليّ البيان ، وإن صدر منه ما يلحق الضرر بغيره ، فدون المتضرر التحاكم والقضاء ، والعرف والحكماء .
ونحن هنا لنكون في الوسط ، ونبتعد عن الأطراف ، فكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ ..
-
alhajlaكل حدثٍ له نَفَسٌ إيجابيّ ...