حمى العلم التجريبي : - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حمى العلم التجريبي :

  نشر في 12 أكتوبر 2023 .

يعتبر الكثير من الفلاسفة و المفكرين من داخل المنظومة الغربية و خارجها أن العلم الغربي - أقول الغربي الإرتباط المضمون العلمي التجريبي بالتحيزات الفلسفية المسبقة لهذا الغرب - هو صنم العصر و بقرته المقدسة، و ذلك على مستويات مختلفة، فالفرد العامي يتمتع بمنتجات هذا العلم و يتعجب من فتوحاته و إن كان لا يفهمها كل الفهم و يكرر مقولات يسمعها مثل "أنا أؤمن بالعلم" ، "العلم هو الحل" ، دون وعي بالتحيزات الفكرية خلف هذه المقولات ولا بمآلاتها النهائية، وهذا المستوى الأول نمكن أن نطلق عليه الإيمان الدوغمائي بالعلم و إن لم تخل المستويات الأخرى أيضا من شيء من هذه الدوغمائية .

- أما المستوى الثاني فهو مستوى النخب الفكرية التي يتميز طرحها العلموي بقدر من التركيب سواء كانت داخل إطار العلم التجريبي أي متخصصة في أحد فروعه أم كانت خارجه أعني مجال التنظير الفلسفي لها و هم الأخطر، ويجدر في هذا المقام إعطاء مجموعة من التنويهات و الملاحظات حول لفظ العلموية، فعندما نقول فلان علموي لا نعني بذلك أنه ذو عقلية علمية أو أنه من العلماء في أحد مجالات العلم الطبيعي بل نعني بقولنا الإطار الفلسفي و الرؤية الكونية الشاملة التي ترى في العلم الطبيعي و في المنهج التجريبي المصدر الوحيد لليقين و المعرفة الموضوعية و رفض أي منهج آخر سواء كان عقليا مجردا أم نقليا.

و يسعى العلمويون دائما إلى التملص من هذا الإطار الواضح في كتاباتهم و أطروحاتهم و يحاولون الاستئثار بنتائج العلم التجريبي و بالعلمية و مسلحين دائما باتهامات جاهزة لكل مخالف بأنه خرافي ميتافيزيقي و غير علمي، و فخ المصطلحات هذا يغفل عنه الكثيرون من المشتغلين في هذه المجالات .

حقيقة العلموية أنها أيديولوجيا و بناء فكري له أسسه الفلسفية التي يقوم عليها، و لا يحق لها بالتالي أن تستأثر بنتائج العلم التجريبي و أن تكون الناطقة بإسمه، إنما هي أيديولوجيا كسائر الأيديولوجيات و النحل الإلحادية الأخرى ركزت أكثر من غيرها على جانب تأليه العلم التجريبي و منهجه المعرفي و اعتبار ما دونه خرافات و هرطقات، وهذا لا يعني أن باقي الأيديولوجيات المادية لا تستغل مقولة العلم التجريبي بل على العكس من ذلك فهو من أكبر مقولاتها و أدواتها في خطابها المضاد للأديان و الخطاب المادي الإلحادي عموما هو خطاب مضاد للأديان تركيزه على بناء منظومته المعرفية أقل من تركيزه على نقد الأديان مستعينا بوسائل كالسخرية وإطلاق صفات مثل الاعلمية و الغوغائية، والإلحاد فكر طفيلي لا يقوم بذاته إنما هو مجرد مقولة مضادة لمقولة أصلية هي الدين .

الصراع بين الكنيسة والعلم :

إن من أكبر الأخطاء المتكررة في الكتابات العربية حول هذه المواضيع هي وصف الصراع بين الكنيسة و الانتلجنسيا المتبلورة في القرنين١٧ و ١٨ بأوروبا بأنه صراع بين الكنيسة و العلم و أن الكنيسة كانت ضد العلم، وهذا غير صحيح فالكنيسة على العكس من ذلك كانت راعية للعلم و العلماء إنما صراعها الحقيقي كان مع أطروحات تتجاوز المعطى العلمي التجريبي المجرد إلى البناء الفكري الفلسفي الذي قد يكون في غالب الأحيان شديد الإنحراف عن أي شريعة سماوية لا زالت تحافظ على الحد الأدنى من الرسالة الأولى الصحيحة دون تحريف، يستغل العلمويون هذه الأطروحة أعني عداء الكنيسة للدين و محاربتها للدين كدليل على عداء الدين للعلم و على إستحالة الوئام بينهما إذ تحكمها أطر مختلفة فالعلم عماده التجربة و الدين عماده الإيمان المجرد، وهذه المقولة قد تبدو صحيحة للوهلة الأولى لكن مع دقة النظر و التحقيق يتبين مدى خطأها وافترائها، إذ يستحيل على أي إيمان ديني أن يبنى على غير مبادئ أساسية عقلية منظمة للإعتقاد يدور باقي الدين حولها .

-إن الصراع مع الكنيسة في التاريخ الغربي يعتبر من دون شك من أخطر و أهم محددات العقل الغربي و أسواره فقد ترك هذا الصراع فيه نذوبا و جراحا لم تلتئم بعد و من أبرز تجليات هذا المحدد هو العداء للأديان عموما لا المسيحية فقط وهو تعميم غالبا ما نشهده في التجارب المشابهة و التطرف في العداء للدين عموما لا المسيحية فقط وهو تعميم غالبا ما يحدث في التجارب المشابهة و التطرف في العداء للدين هو كذلك نمط متكرر في أمثال هذه التغيرات الفكرية الكبرى و الجدرية حيث يكون العداء للفكرة القديمة شديدا و منطلق للفكرة الجديدة، لكن النخب العلموية تحاول إبراز هذا الصراع على أنه شاهد تاريخي على صدق دعواها القائلة باستحالة الموائمة بين العلم و الدين وهو أمر غير صحيح .

إستبداد التجريب معرفيا :

-إن نقدنا للفلسفة العلموية لا يعني بالضرورة معاداة العلم التجريبي و تطبيقاته أو التحذير من العمل و التخصص فيه، بل على العكس من ذلك، فنحن من المستفيدين من مخرجات العلم التجريبي و من مندهشين لكل اكتشاف و فتح جديد، إنما نقدنا لمن يستغل العلم التجريبي و يستأثر بوصف العلمية و لمن يتخده غطاء للترويج للإلحاد و المادية.

إن القول بأن التجريب هو مصدر المعرفة الوحيد قول يتسم بقدر كبير من غياب الرزانة الفلسفية و التركيب النظري، وهو قول قد لا يعي الكثير من القائلين به خطورته و تناقضه الصارخ، فركيزة العلم التجريبي المنطقية الأساسية هو قانون السببية يستحيل التأكد منه تجريبيا بل مجرد الإيمان الغير مبرر به بل و العلم التجريبي نفسه يستحيل الإستدلال عليه تجريبيا، و إلا وقع في الدور الفلسفي وهو الإستدلال بالشيء على نفسه ، وكثير ما يقع فيه العلمويون و ذلك لضعف تكوين القوم فلسفيا.

إن العلم التجريبي لا يمكن أن يكون مصدرا واحدا وحيدا لفهم العالم و تشكيل نظرتنا حول سننه، بل ينبغي توفير منابع و مصادر معرفية أخرى تتكاتف لتكون صورة متكاملة منسجمة حول الوجود، فبالإستئثار بالعلم التجريبي كمصدر معرفي وحيد فإن هذه الصورة سيغلب عليها طابع المادية و الإلحاد، وهو ما حصل مع الغرب و يمكن تتبع علل الغرب و مشاكله كافة إلى هذه النظرة الأحادية البعد التي تهمل بل وتنكر البعد الروحي الامادي للإنسان الذي لا تستقيم النفس الإنسانية إلا به، و قمع هذا البعد في الإنسان يعني إيراده موارد الهلاك و إن كان الجانب المادي الشهواني في حالة إشباع مستمرة لا قرار لها.

موت الفلسفة :

تعتبر موت الفلسفة من أشد الأطروحات تكرارا في الأوساط العلموية وفي نفس الوقت نفسه من أشدها سخافة و سطحية بدءا بطبيعة التصريح نفسه أي موت الفلسفة فهو طبقا الأصول الفلسفة تعبير و تصريح فلسفي، إن دعوى القوم القائلة أن الفلسفة ليست إلا عائل على العلم دعوى باطلة لا تقوم أمام أي نقد منطقي موضوعي، فالفلسفة عندهم ليست إلا شارحة و مركبة بعد أن يتم الكشف العلمي التجريبي وهي بطيئة لا تستطيع مواكبة سرعة الإنتاج التجريبي، و الجواب يكون على أوجه منها طرح القوم أنفسهم الذي يعتبر طرحا مادي و بالتالي فلسفي هذا أولا، أما ثانيا فعند البحث الموضوعي لعلاقة العلم التجريبي بالفلسفة نجد أن العلم نفسه هو العالة على الفلسفة والتابع لها لا العكس و نحن لا نعني بهذا الجانب التاريخي للمسألة و كون الفلسفة أصل لكل العلوم و إن كان هذا المعنى جزءا من الجواب، بل نعني بذلك طبيعة كل من العلم و الفلسفة فالعلم إنما يختص بدراسة جزئيات الأمور في عالم المادة بينما ينصب تركيز الفلسفة على ما هو أكبر و أوسع من ذلك و هو تكوين صورة كلية شاملة للكون و الوجود تستعين بمخرجات العلم التجريبي لا كمصدر و حيد بل كآذاة كسائر الأدوات التي تستعمل في البحث الفلسفي مما يسمه بشيء من التركيب و الإحاطة .



   نشر في 12 أكتوبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا