كان يوما كئيبا شيئا ما، الجو مكفهر و بارد بالخارج. توجهت إلى المكتبة صباحا، لا يمكنني إخفاء تعاستي بيني وبين نفسي، حتى أن رياح "وينيبيغ" كانت كذلك حزينة، غاضبة تضرب بقوة و تزيح من يعترضها.

حزني اليوم مضاعف، أتممت رواية المغاربة و رحلت سهام عن المدينة.

العلاقة بين الحدثين وطيدة، فقد عشت مع رواية المغاربة رحلة استثنائية طيلة الأيام الماضية وغصت في تفاصيلها و عبارات "عبد الكريم جويطي " الساحِرة و الفريدة التي تتستوقفني في كل مرة عندها، أسَطِّرُ على بعضها و أكرر بعضها أكثر من مرة، المغاربة آنستني في غربتي.

كنت أهرب إليها بنهم شديد و أزدرد أسطرها بمتعة غير مسبوقة، أنتظر بفارغ الصبر نوم صغيرتي لأرحل معها إلى بني ملال حيث تدور أحداثها و إلى المغرب عامةً لأن الكاتب أراد أن تكون روايته نسجا مدهشا بين التاريخ و الخيال، بين ماضي المغاربة وحاضرهم ، هي ليست كتابا أو وثيقة تاريخية و ليست حكاية متخيلة، هي خليط و مزيج عميق بين كل هذا وذاك.

المغاربة دفعتني للتساؤل وتحليل الشخصية المغربية، لأنها بكل بساطة تكشف حقيقة علاقتنا بمجموعة من الروابط، علاقتنا بالأرض، بالجبل، بالحرب، بالمخزن، بالخرافات والسادات، بالتيه والهذيان في أحيان أخرى، حتى أبطال الرواية شخصيات متفردة، أبرزها محمد الأعمى و أخوه العسكري.

كثيرا ما تساءلت كيف للكاتب أن يصف مايحسه الأعمى بتلك الدقة، بذلك العمق الأدبي الإبداعي وهو شخص مبصر ، كيف استطاع ربط قصته بقصة 'طه حسين' وأخذنا من حين لآخر لتفاصيل حياة "حسين" الكاتب و الإنسان وكشف جوانب أخرى منها.

وصلتني جروح العسكري العميقة و خذلانه، و حزنه و ضياعه…

تحس و أنت تقرأ المغاربة أن الكاتب عبارة عن موسوعة تاريخية فلكل حدث ما يقابله أو ما يفسره في حياة المغاربة سابقًا وكأنه يقول لنا في تاريخنا توجد أجوبة كثيرة لما يحصل في حاضرنا!!

الحب و الخيانة أيضا كان لهما نصيب في أحداث الرواية، تماما كما يحب المغاربة وكما يخونون.

 كانت "تماوايت" صفية الحزينة مفتاح دخولها لقلب محمد، وهنا عدت بالذاكرة لطفولتي و صرخات « تماوايت »التي تساءلت دوما عن سر نبرة حزنها، وصوتها الذي يتسلل إلى الروح و يكلمها فتَعذر ألَمَهُ و تواسيه، تماوايت صرخة نساء منسيّاتٍ في المغرب العميق ولدت مواويلها بعد مخاض عسير في أحضان الجبل فأصبحت صداه المُدَوّي الذي نقلته "حادة أوعكي " إلى ربوع المملكة ليسمعه المغاربة قاطبة من خلال أشرطة" الكاسيط" و المهرجانات.

وددت وأنا أقرأ أسطري الأخيرة أن لا تنتهي الرواية، وكنت أودعها بقليل من الحزن كما ودعت سهام هذا الصباح.

هل سبق أن راسَلْتَ شخصا عبر تطبيق هاتفي لا علم له بمن تكون، ليس له أي إدراك مسبق عنك، عن ملامحك و شخصك، لكنه يقرر وبدون مقدمات إسداء خدمة العمر لك. هكذا كانت سهام كأنها تسخير إلهي، كأنها سبقتنا لهذه المدينة لتقوم بهذا الدور العظيم وترحل إلى وجهتها الموالية.

 سهام أول شخص عرفته في غربتي فأصبحت جارتي و صديقة مقربة، عِشْنا أيام الغربة المُرَّة الأولى و اكتشفنا معًا شتاء "وينيبيغ " القاسي الطويل.

 خفَّفْنا على بعضنا نوبات القلق من الاندماج، كم ضحكنا على نطقنا الركيك للانجليزية "ديال الله يحسن لعوان" كما كنت أقول دوما، كانت تجمعنا أحاسيس الاشتياق لنكهات المغرب و أطباقه و كم تذمرنا من ساكنة "انستغرام "لأنهم لا يراعون مشاعرنا وينشرون بكثافة كل الأطباق اللذيذة التي نتوق إليها وكأنهم يستمتعون باستفزازنا.

يكفي أن أولى خطوات صغيرتي كانت في شقتها و بمساعدتها، كما أنها كانت أول شخص نادته بعد كلمة "بابا".

كثيرة هي الأشياء التي تقاسمناها في هذه المدة، انتظاراتنا من تجربة الهجرة، أهدافنا، لا يمكن أن ننسى دروس السياقة و رسوبنا الذي تكرر وكنا نجتمع في المساء لتحليل أسبابه و السخرية من أخطائنا ، نلوم الممتحن و الراجلين، و السيارات الأخرى و في الأخير نلوم القدر و زمن الإمتحان، وكيف لا نفعل و نحن مغاربة كما قال " جويطي "في الرواية ، لا نتقن سوى الشكوى و التذمر من الظروف.

لم أشعر أنني بحاجة أصدقاء مغاربة آخرين في وجود سهام، ولم أتوقع أن رحيلها الذي لم يكن مفاجئا وكنا نتحدث عنه مرارا خلال الشهور الماضية قد يخلف في نفسي كل هذا الحزن، ويترك كل هذا الفراغ الشاغر، شعرت أن اليوم هو أول أيامي هنا و أنني تغربت من جديد…. 

25/08/2023