وإن كان لصداع رأسك مسكنات تعمل على القضاء عليه من جذور الألم بإقتدار , فكيف حال ذاكرتك إن لم تجد مسكن لمجرد التخفيف من ألم التذكر اللاذع ؟! ..
ألم تشعر يوماً بصداع ينتابك في ذكرياتك ؟ , ذلك الألم الذي يقع عليك فتنتفض داخلك كل ذكريات الماضي , بحلوها ومرها , بسعادتها وشقاؤها , تلك الحالة المُسماة بـ " صداع الذاكرة " ستجد نفسك تتألم معه أضعاف مُضاعفة من تألم أقسى الأمراض البشرية التي ستمر عليك يوماً ! , ولن يُشفيها شيء , أكبر أطباء العالم سيجهل طريقة علاجها المُثلى , وإن قررت الإستعانة بأكبر فريق طبي في الكون فستجده يقف أمام حالتك كطالب طب في سنته الأولى ويجهل حتى كيف يرتدى بالطو الأطباء ويرتعش بمجرد أن يمسك بأدوات التشريح البسيطة ! , أكبر مستشفيات العالم ستجدها خالية من أساليب علاج حالتك وإن كانت تعج بأحدث الأساليب والتقنيات والمعدات , قادرة على علاج أصعب الحالات المرضية ولكنها تتعطل بمجرد أن تقف أمامها لتطلب الشفاء ! , المك معدي , وبرغم أنه ينشر فيمن حولك أعراضه إلا أنه صاحب تأثير مختلف من شخص لشخص آخر ! , فهناك من يتضح عليه أعراض تلك الحالة بسعادة غامرة لقلبه , وأخر بشقاء وتعاسة مضطربة , وآخر بهدوء نسبي يخالجه صمت غريب كأنه يتحدث مع ذاته بلغة مشفرة لن يفهمها سواه , ولكن الأكيد أن ما ينتابك من تلك الحالة لن تستطيع وصفه , لن تستطيع البوح به مهما حاولت , وإن حاولت ستجد الكلمات عاجزة عن وصفه وصفاً دقيقاً فتجدها تخونك وتروي ما لا تقصده ! .. غريبة أليس كذلك ؟..
الشخص المصاب بتلك الحالة المُسمى بـ " المُتذكر " يستطيع خلالها رؤية التفاصيل كاملة بوضوح , كأنه يعيشها في حينها , ويشعر بلمس أنامله لكل مكان يتضح في المشهد , فبدلاً من دماؤه التي تجري بعروقه أصبح الوضع الآن مختلف , تبدلت الدماء إلى ذكريات , وكل ذكرى بحالة مختلفة , وكل حالة بتأثير أخر , وكل تأثير برد فعل جديد , ومع كل ذكرى تزداد إضطرابات الحالة , وتشتد , وكأنها تأبى الإنسحاب من تلك الذاكرة البسيطة المسكينة , فتزيد عليها الضغط أكثر فاكثر , ويحتاج الـ " مُتذكر " لوضع حد لهذه المهزلة التي تحدث في حق راحة باله , ولكنه يفشل في ذلك في كل مرة ومع كل ذكرى تسري في عروقه فتبدله من كائن متزن على بواقي ذكريات تسير على أقدام بشرية !
ويبحث في جميع الأرجاء عن أي مهدئ , فيجد في ركناً ما عن مهدئ للأعصاب ولكنه لن يُهدئ الذاكرة عن إنتفاضها المفاجئ , ويبحث في زاوية أخرى , فيجد منوم مؤقت , ولكنه وحتى في نومه يجد ذكرياته تُترجم في أحلامه , غنه العقل الباطن يا سادة الذي سيُضاعف من إضطرابه , فيستيقظ والفزع يشق صدره كالخنجر المسموم مهموماً , ليبحث من جديد في ركن جديد , فيجد مسكن صداع , فتتفتح في قلبه زهور الأمل في الشفاء , وتتسابق أنفاسه كأنها تعلن عن فرحتها حيال ما وجده ذلك المسكين , ولكن فرحته تلك لن تكتمل على خير , فهو مجرد مسكن صداع الذي يصيب البشر في حالات الإرهاق , وفقط , فتذبل زهور الأمل وتتساقط على أرض الواقع , وتتوقف أنفاسه لتُعلن عن فرحتها المزيفة في وهم الشفاء ..
غريب امر البشر ! ..
بعد أن إكتشفوا أهم الأدوية في علاج أكثر الحالات تعقيداُ , لم يستطيعوا إكتشاف مسكناً للذكريات حتى الآن ! , وكيف ذلك وهي حالة لا يمكن التقليل من شأنها لما تبعثه في نفس البشري من إضطرابات أعنف من أعنف مرض ! , وما يصحبه الإنسان بسبب تلك الحالة يجعل البشرية كلها تشفق عليه , فبها يتحول الإنسان لكائن قد لا تعرفه , يتبدل تبدلاً غريب حقاً , فكيف لنا أن نراه يتساقط هكذا ولا نستطيع فعل أي شيء لأجله ؟! ..
صدقاً ..
أنا في حيرة كبيرة حيال أمر تلك الحالة المستعصية , فأكتب الآن وانا أعاني منها وبشدة , والمعاناة في الوصف أكثر من الشعور والمرور بها , فأصعب ما يكون هو عجز البشري عن الوصف , إيقاف ما لا يستطيع إيقافه , التحكم في مجرد مشاهد تمر على الذاكرة أمر لن تجد أكثر منه شقاء , فحتى وإن أطبقت جفونك وحاولت الهرب من سريانها الخيالي أمام عيناك , ستجدها تداهمك في تلك الخلفية السوداء وبوضوح أكبر ! , في كل الأوقات لن تستطيع الفرار من قبضتها , ولن تستطيع حتى أن تصفعها وتخبرها كم هي قاسية , ولا تستطيع الإنتقام منها , ولا تستطيع الإمساك بها ونفيها إلى آخر بقاع الأرض , ولن تستطيع القضاء عليها ومحوها من العالم وتحرير العالم من شرها , لن تستطيع ..
فلا تعتقد أن ذلك البشري التائه والشارد بنظره وذهنه في عالم آخر مختل أو مريض , فهو يعاني مما لا يتحمله أقوى البشر في دنيانا , هو يحارب في معركته التي لا يدري هل لها نهاية أم لا ! , يحارب وفقط والنتيجة يتركها تأتي كما تأتي , أو حتى لا تأتي , فهو غارقاً في بحور ذكرياته وفقط , ولا تقلق عليه , فقد اعتاد هذا الغرق , واستساغه , حيث أنه لم يجد بديلاً عنه , فقرر أن يغرق بقبول ورضا ..
التعليقات
..واحيانا تقوينا ...وتمنحنا جرعة أمل....واحينا توقظ ألما عابر ..لا مفر منها سوى مسايرتها ....دام قلمك أستاذة نوراااااا
( .المعاناة في الوصف أكثر من الشعور والمرور بها , فأصعب ما يكون هو إيقاف ما لا يستطيع إيقافه ,)
*التحكم في مجرد مشاهد تمر على الذاكرة أمر لن تجد أكثر منه شقاء ,
* حتى إن أطبقت جفونك وحاولت الهرب من تلك الذكريات ....., ستجدها تداهمك في تلك الخلفية السوداء وبوضوح أكبر
* في كل الأوقات لن تستطيع الفرار من قبضتها , ولن تستطيع أن تصفعها أو الإنتقام منها , أو الإمساك بها ونفيها إلى آخر بقاع الأرض , أو القضاء عليها ومحوها من العالم .
ومن خلال إدراكنا جميعا لصعوبة وقسوة تلك الحالة وما وصفته نورا في ثنايا مقالك ,
جاء الحل الذهبي من عقل مستنير و كاتبة متحكمة ومدركة متى واين تضع العلاج للقارئ
بعد أن أصابته الحيرة من امره وبعد أن اصبح غارقاً في بحور ذكرياته...
ها هو ذا الطبيب يطمئن مرضاه واقارب المريض ...( لا تقلق عليه , فقد اعتاد هذا الغرق , واستساغه , بل دعه أن يغرق بقبول ورضا... حيث أنه لم يجد بديلاً عنه , ..
يعجز اللسان عن وصف مدى براعتك يا نورا وعمق تفكيرك
بعد أن إكتشفوا أهم الأدوية في علاج أكثر الحالات تعقيداُ , لم يستطيعوا إكتشاف مسكناً للذكريات حتى الآن ! , وكيف ذلك وهي حالة لا يمكن التقليل من شأنها لما تبعثه في نفس البشري من إضطرابات أعنف من أعنف مرض ! , وما يصحبه الإنسان بسبب تلك الحالة يجعل البشرية كلها تشفق عليه , فبها يتحول الإنسان لكائن قد لا تعرفه , يتبدل تبدلاً غريب حقاً , فكيف لنا أن نراه يتساقط هكذا ولا نستطيع فعل أي شيء لأجله ؟! ..
كلما قرات لك بعمق كلما انبهرت بأسلوبك الرائع و تحكمك في خبرة الحياة و تمرد القلم
أحسنت بامتياز و دون مجاملة سيدتي أو آنستي فالاحترام لرفعة منزلتك واجب و حرفك من عرفني بك و الا لما اكتشفت موهبتك الرائعة..استمري فأنت لها .