الحراك الشرق الأوسطي ما بين حلم التغيير في الجوهر والدوران في الحلقة المفرغة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الحراك الشرق الأوسطي ما بين حلم التغيير في الجوهر والدوران في الحلقة المفرغة

  نشر في 14 يونيو 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .


د. أحمد يوسف

لم تكن ولادة الدولة القومية، ذلك الكيان الذي تأسس في منطقة الشرق الأوسط مع بدايات القرن العشرين بتجلياته الراهنة، إلا نتيجةً للإيفاد الفكري من الغرب الرأسمالي في القرن التاسع عشر، لتكون الحلقة الأولى في سلسلة تغييرات جوهرية تؤدي إلى ترسيخ ظاهرة التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للخارج، ولم يكن الحظ حليفاً لهذا القادم الجديد والمولود منذ أيام الميركانتيلين في القرن السادس عشر في القارة العجوز، إذ أنها كانت تفتقر إلى الحاضنة الاجتماعية لإيوائها في مراحلها الأولى، وذلك نتيجة الشعور السائد في الانتماء إلى شمولية دينية، يعود تاريخه إلى ما قبل ظهور هذا المولود بأكثر من ألف عام. ربما استفردت بها المنطقة وتميزت بها عن سواها، رغم تغيير مراكز ثقلها وتحولها على امتداد الخارطة الشرق الأوسطية بدءأ من المدينة المنورة وانتهاءً باسطنبول مروراً بدمشق وبغداد.

لذلك لم يكن من اليسير تقبل ذلك الضيف الغريب. فإذا كان ذلك لجمع الشتات، فالإسلام يقوم بأداء دوره في ذلك رغم أن الظروف التي سادت أيام حكم اسطنبول اختلفت عن تلك التي كانت سائدة أيام حكم بغداد أو دمشق من مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن الغرب الذي أدرك هذه الحقيقة، لم يكن عاجزاً أمام إيجاد بوابةٍ تسعى من خلالها إلى الدخول بنظريتها في القومية إلى المنطقة. وقد وجدت ضالتها من خلال بوابة الأقليات الدينية فيها، والتي دعمت طرح الفكر القومي كبديل للفكر الديني السائد، فالمثال السوري والعراقي لا يخفى على أحد، حيث باتت العروبة مرادفة للعفلقية، ولا شك أن ذلك قد برر الفعل الغربي، وإن كان بشكل مخفي في الكثير من الحالات، وشكل صمام أمان الحفاظ على التمايز الديني، حسب ادعائهم.

يستطيع أي متابع لحالة التغير التي شهدتها منطقتنا بعد الزحف الفكري الغربي، المرافق بالزحف العسكري في بداياته، أن يلحظ الشرخ الذي حدث بين مختلف المكونات المتعايشة على الجغرافيا الواحدة، رغم اندحار تلك القوى عسكرياً أمام إرادة شعوب المنطقة، ولكن تبين أن الإرادة كانت تفتقر إلى الفكر، والفكر الذي ترسخ كان هو ذلك الفكر القادم إلينا والذي عشعش في كياننا دون أن ندرك خفاياه.

هنا كانت البداية مع مسرحية تقسيم الشرق الأوسط المتعدد الأثنيات والديانات ومهد الحضارات منذ الألف الخامس عشر قبل الميلاد والمتجانس في غالبيته ضمن موزاييكه المتعدد الألوان، ولم يقتصر التقسيم على جانبه الجغرافي قط، بل تجاوز الأمر ذلك بكثير، وامتد ليشمل المجتمع بفكره واقتصاده وسياسته ويصيبها شيزوفرانيا تبين فيما بعد بأنها غير قابلة للمعالجة في الأمد المنظور، حيث أصبحت، بتأثير الفعل القومي، من أكثر المناطق المصابة بداء السخونة في العالم، وليست عصية على تحقيق الإندماج الفكري فحسب، بل عصية على تحقيق أدنى مستويات المواءمة الفكرية بين مكوناتها الموزاييكية من أجل تأمين إمكانية العيش المشترك.

فإذا وصل بنا الحال في المنطقة إلى ما هو موصوف أعلاه، فإن ذلك يؤكد لنا أن النجاح الغربي في تجريدنا من قيمنا الدينية والاجتماعية أو على الأقل تشويه تلك القيم قد باتت حقيقة لا مفر منها، وما زلنا نسير على ذلك الدرب المشوه، والنجاحات الغربية تأتي متتالية على حساب انكساراتنا القيمية والأخلاقية. فتمسكنا بما كنا نرفضه بالأمس أمام ما يفرض علينا اليوم، ليس سوى تعبيرنا عن العجز عن إنتاج منظومة فكرية مستندة إلى تاريخنا الموغل قدماً.

لم يعد خافياً ماتركه إرث المنظومة القومية بفعل التغذية المستمرة لروحها الإقصائي خلال القرن العشرين، واصبحت النقاشات الدائرة عن جدوى بقاء الفكر القومي سائداً في القرن الحادي والعشرين موضوعاً يتم تداوله في المحافل المختلفة، وخاصة في الدوائر الاقتصادية بعد سيطرة الفكر الليبرالي غربياً وما تمخضت عن العولمة الاقتصادية من نتائج فكرية وسياسية. ونتيجة لذلك احتلت قضية التعددية السياسية مكانةً متقدمة بين سلسلة البدائل المقترحة لإنهاء سيطرة الدولة القومية في الشرق الأوسط.

السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي حد نجحت المراكز الممثلة للطروحات الفكرية الجديدة في تحرير ذاتها من سيطرة الفكر القومي، في خضم صراعها من أجل تطوير الحالة السياسية في الدول القطرية(القومية في الوقت ذاته) في المنطقة؟

الحقيقة أن معظم الطروحات الجديدة لا تحارب سلطات الدولة القومية المتسيّدة من منطلق التخلف الفكري للأخيرة وعدم قدرتها على مواكبة المعطيات التي تحددها التطورات العالمية الجديدة على الأصعدة كافة، وإنما تتخذ مواقفها العدائية من السلوك الفاسد والإفسادي بحق الشعوب، والمترسخ منذ عهود الاستقلال. لذلك يمكننا الحكم على القوى المعارضة للأنظمة القائمة بأنها لم تتمكن من الخروج من دائرة الفكر القومي الإقصائي والفاسد، وهي مصابة، مثلها مثل المتسيدين في القرن العشرين، بداء الشيزوفرانيا السياسية، حيث أنها تدعو إلى الحرية والتعددية من جهة، وتغلق سبل إمكانية العيش كلها أمام ولادة التعددية وتطورها من جهة أخرى. فالتعددية –برأيها- هي تعددية الفئة الواحدة التي ورثت السيطرة منذ تبني المفهوم القومي للتعايش بين الأمم. وبالتالي يعتبر إقصاء ما هو مختلف عن اللون الواحد في الموزاييك الأثني وظيفة تفرضها ضرورات الحفاظ على الثورة وأخلاقياتها على الأنظمة القومية دون المساس بالفكر القومي.

وفقاً لهذه المنهجية، فإن طبقة التغييريين في القرن الحادي والعشرين، لا يمثلون إلا فئة من أجل تغيير شكل الفساد السائد في ظل الفكر القومي الأحادي بشكل آخر، متعدد الألوان وقائم على المحاصصة تبعاً للقوة التفاوضية(سياسياً وعسكرياً) لكل طرف في المنظومة الجديدة. وعليه تنتقل المنطقة من حالة إنضباط فكري(الناجم عن القمع)، أياً كان طبيعة ذلك الفكر، إلى حالة فوضى فكرية، أنهارت معها الدولة القومية، كمنظومة سلطوية سائدة من بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبقيت كمنظومة فكرية متجددة ومطعمة بلونٍ إسلاموي أحادي(سني أو شيعي). ولا توجد دلائل على انهيار الفكر القومي واسقاطها في المعادلة المتشكلة حديثاً على امتداد الجغرافيا الشرق أوسطية.

طبيعيٌ أن لا تؤدي الحالة الشرق الأوسطية الجديدة إلى بلورة منظومة فكرية ذات معالم واضحة وقادرة على إعطاء الأجوبة اللازمة والضرورية للتساؤلات حول مستقبلها، ذلك لأن الانتقال السريع والمذهل من الحراك السلمي إلى العسكرة في محاربة بعض الأنظمة (ليبيا، سوريا، اليمن) لم يكن إلا بسبب غياب الحاضنة الفكرية التي تعتمد الأسس الديمقراطية في حراكها.

إذا كان هذا هو حال النظم السياسية التي تعيش الصراعات الدموية في المنطقة بعد الحدث التونسي، حيث لا سقوط للفكر القومي، وبالتالي للدولة القومية، فما الذي سقط خلال الفترة السابقة إذن؟

إن ما تشهده الساحة السورية أو اليمنية اليوم خرج من إطار دائرة الصراع (السلطة - المعارضة) ودخلت في دائرة صراع(الطائفة، الأثنية، الدين، القبيلة، إلخ...) الأكثر اتساعاً، وربما كان ذلك هدفاً للدولة من جهة وللأجندة الخارجية عبر بعض أياديها في الداخل من جهةٍ أخرى. وتؤكد الأحداث المثبتة على الأرض هذه الحقيقة بكل تجلياتها. وبهذا فإن الواقع ينذر بما هو أخطر من الفكر القومي، وهو ولادة فكر عصبوي يحمل بين طياته بذور التطرف القابلة للنضوج بصورة سرطانية وبكل أشكاله ولا يحتضن سوى أضيق دوائر إلى جانب رفض كل الدوائر الأخرى المختلفة في أبسط تفاصيلها رفضاً مطلقاً، وتنعدم معه إمكانية التعايش، حتى وإن كان باسلوب الاحتضان الشكلي القائم على إنكار جميع الحقوق لذلك المختلف، وحتماً لن تنجم عن هذه الحقيقة سوى حالة تشرذمية متمثلة في الانهيار الشامل للموزاييك الشرق الأوسطي ومؤدية إلى ولادة مجموعة كيانات داخل كل كيان، وتجمعها سمة مشتركة واحدة وهي الضعف والوهن الذي قد يمتد لعقود قادمة.



  • 1

  • أحمد يوسف
    أكاديمي سوري، دكتوراه في الاقتصاد المالي والنقدي، مدرس في جامعات سورية
   نشر في 14 يونيو 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

hiyam damra منذ 7 سنة
مقالة جديرة بالقراءة كونها انتهجت الموضوعية بالتحليل والشرح متخذة اسلوب اختراق العمق الموضوعي للأحداث وما آلت عليه في نهاياتها وتوقع ما ستنتهي عليه مآلاتها
0
أحمد يوسف
اعتقد أننا في عموم الشرق الأوسط نحتاج إلى إعادة قراءة الكثير من ملفات التي تخص تاريخنا وواقعنا ومستقبلنا بجميع مفرداتها، وشكرً لكم على هذه الرؤية الجميلة

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا