أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات , هو إجتماعيته واستكانته للغير , وحبه للمجالس والعلاقات الإجتماعية , ورغبته في توطيدها وتقويتها واستمراريتها , ولهذا نجد صيغ كثيرة للتجمعات والتكتلات الإنسانية التي أنشأها عبر الزمن , الأسرة , والعائلة , والقبيلة , والحي , والتحالفات , وغيرها من التكتلات البشرية والإنسانية, التي يجتمع فيها مجموعة من البشر , تجمعهم صفة معينة , أو هدف واحد , أو مصير مشترك , يأنسون ببعضهم , ويتقاسمون الحمل الثقيل.
ومن خلال هذه التكتلات أو التجمعات , نشأت روابط أو علاقات وأواصر , تحدد علاقة الإنسان بالإنسان , ونظرة الفرد للآخر , فكانت علاقة الأبوة والأمومة , والأخوة , والقرابة والصداقة , والجيرة , وغيرها من طبيعة العلاقات التي تنظم الصفات بين بني الإنسان.
وكان لابد من خلال هذه الروابط والعلاقات , أن تنشأ معاملات بين طرفي العلاقة , مصلحة أو منفعة , تبادل خدمات , أو زيارات , أو علاقة حب أو صداقة , نسب أو مصاهرة .وتطورت هذه المعاملات عبر الزمن وعلى مرّ التاريخ , بتطور الحياة واحتياجاتها , وبكثرة حاجة الإنسان لغيره , وبتداخل المصالح والمنافع , وبتميز الطبقات الإجتماعية وتباينها على غيرها .
فكان لزاما أوكما أرادوا تصديره , أن يكون الإنسان دبلوماسيا في معاملاته , متقمصا قميصا ليس بقميصه , وبوجه غير وجهه , لينال منفعة ما , أو لقضاء حاجة معينة, وحتى لو كلفه ذلك خداع نفسه ومشاعره , أو خداع الشخص المراد قضاء الحاجة عنده , وكما يقال : عندما تريد حاجة من الكلب قل له سيدي. وعدو عدوك صديقك , وجوع كلبك يتبعك , وأنا وأخي على ابن عمي, وأنا وابن عمي على الغريب. مقولات شعبية تدل على طابع المنفعة والمصلحة , وعلى معاملة الناس بعضهم لبعض لا على أساس الروابط والعلاقات الإجتماعية , التي تبنى على أسس من المودة والرحمة , والحب .
وعلى هذه الأسس الواهية الوقتية , تظيع علاقات جدية , وتهون روابط أسرية , وتمزق أرحام وأواصر , فيتنكر الأخ لأخيه , والعم لإبن اخيه , والأخت لأخيها الذي رعاها وحماها , في سنين صباها , والإبن لأبيه , الذي أفنى العمر عليه وعلى معيشته , عندما تهون هذه العلاقات والروابط , في سبيل حفنة من دراهم , أو جدار يكاد أن ينقض , أو متاع دنيوي يزول ويبقى خزيه , فتذهب حقيقة العلاقات , وودّها والمغزى منها , وتبقى العداوات والفرقات , وكأن هذا الزمن زمن علاقتي بك بما تملك أو ما تمثل من منصب.
أو ماذا تقول في فتى أفنى أبوه العمر على رفاهيته , وسعادته , وتحمل الغربة والمشاق , ليبيت إبنه في الدفء , شبعان البطن , مستور الجسم , مكفيّ الحاجة , فيشب الفتى طائعا بارا بوالده ما كان والده قادرا مقتدرا عليه , فيكبر الفتي ويقوى ويشتد ساعده , ويهرم الأب ويضعف , وينحني ظهره ويتقوس , ولا يجد من رعاية الفتى سوى القليل من القليل , وربما يفعل ذلك القليل , كي لا يقال أنه عاق وليس بالبار. ويعجز وليس هو بالعاجز , على عرض والده على طبيب حتى ينظر في حاله , وهو الذي أغناه عمل شبابه على الحاجة في كبره .
هذه حالة من آلاف الحالات التي تصادفها في يومياتك , في علاقاتك , في تلك اللحظات التي يرمقك بها أحدهم كان من يكون , بنظرات الرضى والقبول , وببسمات التقرب والوداد , وها هو كذلك ما دمت قويا غني , صاحب المكانة أو المال , أو المصلحة , فإن فارقتك ومالت عنك حالك , فأنت الغريب المغترب , لا رئاك ولا سمع عنك .
علاقات واهية , وروابط موتورة , ومشاعر بليدة , هذا ما أسميه بالنفاق الإجتماعي.
بالحشاني زيد
-
بالحشاني زيدكاتب و قارئ نهم , مطالع في جميع الشؤون, مهتم بالأدب والسياسة