المتأمل لحال النبى و دعوته يلحظ بجلاء إتقانه الشديد لفنون الإدارة و تسخيرها بقوة لنشر الإسلام ومن تلك الفنون "فن تحليل الشخصيات ", فعلى الرغم من إنبهار البعض بما توصل إليه الغرب فى علم الإدارة من أبحاث متطورة و تأصيلات علمية قوية لا سيما فى مجال تحليل الشخصيات و دراسة ردود الأفعال إلا أننا نرى بوضوح من خلال السيرة النبوية أن رسول الله هو أفضل من مارس ذلك الفن بأسمى طرقه و أرفع درجاته , لنتأمل موقف واحد من مواقف السيرة النبوية المعطرة ونرى براعة النبى فى تحليل الشخصيات إنه موقف صلح مكة , لنعود قليلا لتفاصيل تلك الحادثة العجيبة وكيف تعامل مع شخصية أبى سفيان , فلقد أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم أبو سفيان قائلا: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) فاستبشر بكلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودخل إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته ـ كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ـ : " يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميث الدسم الأحمس - تشبهه بوعاء السمن لسمنه -، قُبِّحَ مِنْ طليعة قوم، قال: ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله!، وما تغني عنا دارك؟!، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ."

لاحظ كيف حلل النبى صلى الله عليه وسلم شخصية أبى سفيان رضى الله عنه وكيف نجح بقرار واحد - واقعيا ليس له عظيم قيمة فيكفى المشرك أن يدخل بيته كى يكون امنا وكما قال أهل مكة " وما تغني عنا دارك؟!" فالدار لن تسع إلا القليل و هذا القليل يكفيه أن ياوى إلى داره أو إلى البيت الحرام ..إذا ما قيمة ذلك القرار"من دخل بيت ابى سفيان فهو امن"؟ , بذلك القرار البسيط المبنى على تحليل بارع لشخصية إبى سفيان حقق النبى محمد صلى الله عليه وسلم عدة أهداف كبيرة منها :

1- تألف قلب أبى سفيان وضمن على الأقل عدم تدخله فى المعركة لصالح قريش بل و موافقته وتأييده لفتح مكة.

2- شق عصا قريش , فعندما عاد أبو سفيان - وهو احد كبار قادة قريش - كان باديا أنه اكتفى بشرف"من دخل بيت أبى سفيان فهو امن" , و سعى فى تثبيط قادة قريش وتخذيلهم عن المعركة .

3- ضم أتباع أبى سفيان للصف المسلم , فهذا رأسهم قد أسلم ورضى بفتح مكة فماذا يمنع الباقيين يحذوا حذوه.

4- إيصال رسالة قوية لقادة مكة أن أسلموا تسلموا و تحظوا بمثل ما حظى به أبو سفيان إن لم يكن اكثر, فعلى الرغم من أن أبى سفيان تصدر لحرب النبى و الإسلام لعشرون سنة إلا أنه لما أسلم أكرمه النبى وجعل بيته كالحرم أمنا على من دخله فالأحرى بمن كانوا دونه فى عداوة الإسلام أن ينضموا للمعسكر المسلم .

تأمل أخى الحبيب كيف لمهارات إدارية بسيطة مثل مهارة تحليل الشخصيات أن تؤثر بعمق فى الدعوة لدين الله, إن كل داعية إلى الله يحتاج بشدة لدراسة تلك العلوم من مصدرها الأصلى – القران والسنة – ثم من مصادرها الغربية , أما ما يحدث حاليا من تجاهل شديد لعلوم الإدارة - و كأنها رجس من عمل الشيطان - وسط تلك التحدييات التى تموج بالوطن بينما ينفق الليبرالين والعلمانين و أهل الغرب الالاف المؤلفة على مثل تلك العلوم لمحاربة دين الله , فهذا يضع الدعوة أمام مخاطر عظيمة تهدد الكيانات الدعوية بشدة و يقضى على تأثيرها الفاعل وسط شرائح المجتمع المختلفة خاصة الشباب منهم , فلنفق من الغيبوبة قبل فوات الأوان.