الرواية والتاريخ :

( ملاحظات سريعة حول حج الفجار لموسي ولد ابنو )

بقلم :حمود ولد سليمان

"غيم الصحراء "

كثيرة هي الأعمال العربية الفكرية التي اشتغلت وعملت علي مساءلة التراث والتاريخ العربي الإسلامي القديم من منطلقات عدة . يسارية , إسلامية , قومية , وغيرها ومن بين هذه الجهود نذكر كتابات محمد عابد الجابري واركون والعروي وحسن حنفي وهشام جعيط وآدونيس .

ذالك ان أن مراجعة الماضي ضرورة فكريه لكل محاولة لفهم الحاضر ورسم المستقبل .وكل أمة مرتبطة بماضيها ولاتستطيع الفكاك منه , ثم ان الالتفات الي الماضي ليس عيبا ولا انحطاطا إذا كان من اجل فهمه وتجاوزه , أما إذا كان من اجل استعادته بصفته كما هي والعيش فيه فانه يصبح خطرا.

هذا ومع التطورات الفكرية الكثيرة التي حصلت في عالمنا العربي بفعل المراجعات الجريئة والبناءة التي قام بها المفكرون والمثقفون العرب , أصبح الأدباء يركنون للتراث باعتباره ميدانا خصبا ,يجدون فيه كنوزا لاتقدر بثمن , وهو كذالك , وهم متفاوتون كغيرهم من المفكرين في حسن استيعاب وتوظيف هذا التراث .وفي نمط العلاقة التي يقيمونها معه ونعني هنا التوظيف السردي للتراث عند الروائيين العرب .والعلاقة التي تتخذ اشكالا عدة غالبا ما تكون من خلال

(الانطلاق من نوع سردي قديم كشكل واعتماده منطلقا لإنجاز مادة روائية , وتتدخل بعض قواعد النوع القديم في الخطاب فتبرز من خلال أشكال السرد أو أنماطه أو لغاته أو طرائقه ) (1)

توظيف التاريخ في الرواية والعودة إليه بدأ مع جيل الرواد , واستوي علي سوقه مع جورجي زيدان في روايات تاريخ الإسلام , التي حاول من خلالها تقديم قراءة للتاريخ العربي الإسلامي , في فترة الركود و التخلف العربي , كتب زيدان روا ياته شعورا بالنقص تجاه الآخر الغربي واستنهاضا للهمم وإبرازا للتاريخ العربي المجيد , وهي روايات إذا استثنينا تحويره وتنشيطه للمتخيل فيها ليست سوي كتابة لنفس التاريخ بدون مساءلة عميقة وبالتالي جاءت نوعا من التاريخ الموازي .

بعده جاء نجيب محفوظ فكتب ليالي ألف ليلة محاورا ألف ليلة وليلة وكتب الغيطاني الزيني بركات وأمين معلوف ليون الإفريقي,والحروب الصليبية كما رآها العرب, وسمرقند وواسيني الأعرج نوار اللوز,وفاجعة الليلة السابعة بعد الألف,والمخطوطة الشرقية , وكتاب الأمير , وكل هؤلاء قد عملوا علي تحوير وتحويل النصوص السابقة إلي نصوص جديدة مغايرة للنص الأصلي . وهكذا صارت الرواية التاريخية (التوثيقية) تنتقل بين البلدان العربية مشكلة لها جمهورا عريضا

ويبدو أنها بدأت في السيطرة علي واقعنا العربي الراهن بدل الرواية التوليدية التخييلية ورواية الخيال العلمي والروايات الاخري .ربما بسبب بؤس الواقع وفظاعته والحنين إلي عوالم الماضي الذهبية .

بخصوص السرد الموريتاني العربي وان كان لايزال في بداياته الأولي ,ولا يزال بحاجة إلي تراكمات تغني التجربة الروائية , وحركة نقدية تنير له الطريق , فإنه مع ذالك شهد نقلة نوعية وتقدما كبيرا مع الكاتب موسي ولد ابنو, المسكون بالتاريخ في حج الفجار

سنحاول في هذا العرض أن نتطرق للحديث عن الرواية ,وسنأتي بعد ذالك إلي مرتكزنا اللغة والتاريخ في حج الفجار

1 | العتبة الأولي : عنوان النص

حج الفجار

الحج كما هو معلوم طقس ديني عرفه العرب قديما في الجاهليه . ولما جاء الاسلام جعله ركنا من اركان الاسلام الخمسه

وهو موسم ديني له زمن معين وله محطات : إحرام , وقوف , تشريق , طواف , وقد جعل الكاتب الرواية تسير وفق هذه المحطات كما فعل في (مدينة الرياح ) التي تتحدث عن تحولات المجتمع الموريتاني وقد خلط فيها الروائي العجائبي بالخيال العلمي و جعلها مموسقة تسير علي مقامات الموسيقي الحسانية الموريتانية , برج السوداء (الجانبه الكحله)موسي أسبع , وبرج البيضاء (الجانبه البيظه) (2), وللحج دلالات روحية ترمي إلي التجرد من أدران المادة والالتحام مع الله, ودلالات فلسفية كامنة في البحث عن الذات والتوق إلي المعرفة , وقد تفطن لفكرة الحج أو السفر الروحي فريد الدين العطار النيسابوري في ( منطق الطير ) ,ومادام الحج يكتسي دلالات وأبعادا روحية وفلسفية و مادام سفرا روحيا فانه يصبح مدارا خصبا ونصا لاينتهي , مليئا بالأفكار والصدف و الاشراقات .

2/البنية النصية :

تقع أحداث حج الفجار في العصر الجاهلي في السنة الثالثة والخمسين قبل عام الفيل ,ومن المعروف تاريخياأن الحج موسم مقدس تجتمع فيه العرب وتقام فيه الأنشطة التجارية ويتباري فيه الشعراء في سوق عكاظ ويحتكمون للنقاد

تتوزع حركية الرواية إلي أربعة إيقاعات ( إحرام , وقوف , تشريق , طواف ) متناسبة مع طقوس الحج .

في الفصل الأول تبدأ الرواية بوفود الحجيج علي موسم عكاظ ونري لبيد بن ربيعة يتوسل الالهة النجاح في شعره امام النابغة الذبياني وتقع مهدد في حبه

في الفصل الثاني يبدأ الحجيج في الذهاب إلي عرفة ومزدلفة ومني , وفي الفصل الثالث سرد لأنماط من الشعر الجاهلي وكيفية طقوس التلقي الأدبي , وفي الفصل الأخير , طواف , محاورة لنصوص

شعرية فيما بينها وتعليقات نقدية علي شعر لبيد , وتختتم الرواية بمشهد لبيد يجول في الكعبة ناظرا في القصائد المعلقة فيها ,

حج الفجار رواية تاريخية موثقة منفتحة علي مدارات عديدة انثربولوجية ودينية وثقافية وأدبية واجتماعية وتاريخية , لذالك جاءت صورة عن الحياة العربية القديمة من حيث المعتقدات الدينية والسلوك ونمط العيش والاعتقاد في الجن والأساطير وطقوس الموت ,وقد استأثر الشعر الجاهلي فيها بنصيب الأسد ,والملاحظ في مدونة الرواية الشعرية أن بعض الأبيات تام وبعضها ناقص شطر, وبعضها مكتوب بطريقة نثرية متعمدة من قبل الكاتب , من اجل سردنتها وتفكيكها . الزمن في الرواية يبدأ من اليوم الأول من ذي القعدة من سنة ثلاثة وخمسين بعد عام الفيل ويتداخل فيه زمنين , زمن الحج والشعر

والرواية تتناص مع الشعر الجاهلي وألف ليلة وليلة وأيام العرب والقرآن الكريم والسيرة النبوية .

وبالنسبة للشخوص يعتبر الشاعر الرائي لبيد بن ربيعة محور النص لإستئثاره بمساحة كبيرة من النص وقد يكون اختيار الكاتب للبيد له دلالات وهو كون لبيد يمثل النموذج الامثل من المنظور النقدي القديم (النابغة ) وقد يكون لدلالات مرتبطة بسيرة الشاعر التي عرفت تحولا جذريا من الكفر إلي الإسلام وما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم في شعره (هذا من كلام النبوءة ) ودعوته له ( لافض فوك ) وقد يكون الاختيار بسبب الشرطية التاريخية لان الرواية تبدأ بقليل قبل الإسلام ولبيد أدرك هذه الفترة ويعتبر اقوي أصواتها .

اللافت للاهتمام في نظرنا في الرواية هومسألتي التاريخ واللغة وكيفية تعامل الروائي معهما

3/التاريخ :

مسألة التاريخ تمثل مرتكزا اساسيا للكاتب لأنه يستند إلي أحداث واقعية حدثت في الماضي وهو يكتب نصا متخيلا , كيف يحول الواقعي إلي متخيل روائي ؟ من هناتأتي المهمة الصعبة التي تتطلب جهدا كبيرا, ذالك ان الكاتب مثلما يتعامل مع معطي تاريخي جاهز من المفروض ان يصغي لعناصر غير تاريخية, ويعمل علي محاولة تطويع المادة التاريخية دون ان يكون خاضعا لها من أجل تقديم حدث اوحكاية معينة غفل عنها التاريخ أو رمي بها عرض الهامش . ولم يراها مهمة بغية ترهينها, لكي لا يقع في ما سماه الدكتور محمد عابد الجابري الفهم التراثي للتراث وهو ( الفهم الذي يأخذ أقوال الاقدمين كما هي )(3 )

الملاحظ في حج الفجار أن الكاتب أثقل نصه بكثرة النصوص الشعرية وان كان خلق بينها تفاعلا ووظفها توظيفا سرديا جيدا, إلا أن ورودها كما هي يجعلها لدي المتلقين منفرة لأنها نصوص تقول نفسها بلغة صعبة لاتستطيع ان تتفاعل مع الحاضر, من الصعب ان نستدعي الاشكال الجاهلية كما هي في عصرنا, لان العصر الجاهلي وان كان تاريخنا وفيه عناصر تراجيدية وغيرها , لايصلح لأن يكون رواية لسبب بسيط هو أن العصر الجاهلي أصبح في الوقت الحاضر بلامعني والمادة التاريخية الجاهلية مادة غيرحية , وبالتالي كل رواية عنها هي مستحيلة والأخطر من ذالك أنها تتعامل مع لغة

بعيدة منا وان كانت لغتنا, والنتيجة ستكون, الوقوع في ما اسماه الغذامي الحداثة الرجعية في نقده لآدونيس بانه (بضاغط نسقي واضح يعيد صياغة المعني النسقي العميق للثقافة العربية ) (4)وهو ما وقع فيه الكاتب إذ لم يستطع أن يتملص من النسقية القديمة المتجلية بوضوح في اللغة .

نعتقد أن العصر الجاهلي غيرملائم للرواية التاريخية لان المادة الخام في هذا العصر هي الشعر الجاهلي ولا يمكننا أن نعيد كتابة هذا الشعر من جديد بنفس اللغة؟! أما ما رآه الكاتب من (أن الرواية تنتج كتابة مكررة لهذا التاريخ , نحن اليوم أمام صورتين مختلفتين إلي درجة التناقض عن العصر الجاهلي تقدمها لنا كتب التراث ., وكذالك الدراسات الحديثة فهناك من جهة الصورة التي تبدو وكأن كل وظيفتها تبرير وصف ذالك العصر الجاهلي , وهناك من جهة أخري صورة عن العصر الجاهلي قوامها حياة فكرية نشطة وأسواق للفكر والثقافة .. تبعث رواية حج الفجار هذا الماضي من جديد لأنه لا ينبغي تدميره , ويجب إحياءه , حيث أن تدمير الماضي يؤدي إلي الصمت , كما يقول امبرتو ايكو) (5 )

الأساسي ليس إعادة كتابة التاريخ ولا تبريره ,وإنما العمل علي ترهينه وإضافة معني جديد , الأساسي هو منطق الحاجة الإبداعية هو نبض الإبداع وهو أمر يمكن أن يكون اكثر ثراءا مع بداية الصراعات في الدولة الإسلامية بدءا من الانشقاقات حول الخلافة ومعركة الجمل والعهد الأموي والعباسي , في التاريخ محطات عديدة لكنها ليست بنفس الأهمية والثراء.

ناتي للمسالة الثانية وهي :قضية اللغة

4 اللغة قضية محورية في أي عمل أدبي, ذالك لان حيوية النص وعمقه وخصوصيته وشعريته هي التي تجعله أدبيا, واللغة في حج الفجار لغة صعبة تصدم متلقيها وتخلق نفورا لديه من الرواية ,وهو ما يقر به الكاتب:(... هكذا قاربت الرواية العصر الجاهلي بلغة تحاكي لغة الجاهليين في وعورة مصطلحاتها ومفرداتها ولم تنسحب هذه الخاصية فقط علي النصوص المنسوبة إلي الجاهليين أنفسهم , بل تجاوزتها إلي لغة السرد في الرواية كلها التي ضجت بالمفردات والتراكيب التي قد تبدو صعبة , لكنها مفهومة من خلال السياق العام للسرد) (6)

ومع ذالك تبدو لنا لغة حج الفجار لغة صعبة موغلة في القدم .شبيهة بلغةالمتون القديمة .

( .... يا قوم ! ما منكم إلا من يلحظني شزرا , ويوسعني حزرا , وما ينبئكم عني اصدق مني , أنا رجل من هوازن , قد وطأ لي الفضل كنفه , ورحب بي عيش ,و نماني بيت.. ثم جعجع بي الدهر عن ثمه ورمه , واتلاني زغاليل حمر الحواصل , كأنهم حيات ارض محلة , فلو يعضون لذكي سمهم, إذا نزلنا أرسلوني كاسبا , وان رحلنا ركبوني كلهم , ونشزت علينا البيض , وشمست منا الصفر وآكلتنا السود وحطمتنا الحمر) (7)

وهكذا كانت لغة الرواية وتاريخها متطابقين , الرواية تحكي عن العصر الجاهلي وبلغته .الشيء الذي نعتقد انه يوقع النص لدي المتلقي في أفق النفور .

هوامش :

(1) الرواية والتراث السردي , سعيد يقطين ,

المركزالثقافي العربي, الطبعة الاولي 1992, بيروت , المغرب ,ص 5

(2) مدينة الرياح , موسي ولد ابنو , دار الآداب , الطبعة الاولي , بيروت 1996, ص 7و79

(3) التراث والحداثة ,الدكتور محمد عابد الجابري , مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , الطبعة الاولي , 1991,ص 26

(4) النقد الثقافي : قراءة في الانساق الثقافية العربية , الدكتور عبد الله محمد الغذامي ,المركز الثقافي العربي , بيروت , المغرب ,الطبعة الثالثة 2005 ص 281

(5) حج الفجار :حكاية العصر الجاهلي , موسي ولد ابنو , مقال بتاريخ 13 | 10| 2009 , موقع الاخبار الالكتروني WWW.ALAKHBAR.INFO

(6) نفس المقال .موقع الأخبار الألكتروني

( 7 ) حج الفجار , موسي ولد أبنو,دار الآداب ,بيروت , الطبعة الأولي 2005ص15و16