عِندَمَا يستَقيمُ هذَا الخطّ ..
سأصبحُ الأفضَل على الإطلاق والأكثر ملائكية والأحبّ الى قلوبِ الجميع ..
سيدّعي الكلّ معرفَتي جيّدا .. وقد يختلقونَ كذبات كثيرة انّهم رأوني في أحلامهم على باب الجنّة..
سأًصبح الأطيب والأنقى .. سيندَمُ الّذين أساؤوا لي وترفّعتُ عن الإجابة .. سيتَألمُ الذي أحبّني ولم يبُح ..
عندَمَا يَستَقيمُ ذاكَ الخطّ ..
سأراقِبهم من بعيدٍ وأضحَك لكذِبهم .. سأشهدُ النّدم في أعينهم , سأمرّ بالذينَ آذاهم فراقي وسيشعرونَ بنسمَةٍ رقيقَة على وجناتِهم تمسَحُ دمعاتهم لأنّ البعضَ لا يستَحقّ البكاء وأنا لا أستحقّ أن يحزَنَ النّاسُ لأجلي أريدُهم أن يبتسموا إذَا قالوا "كانت شيماء ..." ويُكملونَ الحكاية , حكايَتي الّتي علقتْ بالمنتَصف ..
ستخرُجُ من حناجرِ الّذين أحبّوني صدقًَا بلا غبار كلماتي الّتي غطّى الترابُ حُنجرتي قبلَ أن ألفظهَا ..
ستُرى في أعينهم صورتي وضحكتي التي غيّبت الأرض جزءًا هامّا منها ..
ستجمعُ أمّي أشيائي وتُخفيها في خزانتها وتقنعُ الجميع أنها رمتها حتى لا يتّهمها ابي أنها على مشارف الجنون .. أبي الذي يشتاقُ قبُلاتي وضمّاتي حينَ تعتريني نوبَةٌ شاعريّة .. أبي الذي سيخبّئُ صورةً التقَطها لي وانا صغيرة دسها في درجٍ قربَ السرير ولن يملك الشجاعة أن يستخرجها منه ويتأملها ..
ستتذَكّرُ صديقتِي المقرّبة أيّامنا منذُ أولِ يومٍ اكتشفتُ فيهِ اصابتِي بالمرض .. سيُؤلمها حجمُ كلّ الشكات والدّموع التي حبستها بصدرها دونَ أن تدري انها بدت من انتفاخة اسفل مقلتاها تحاولُ أن تشحنني بالقوّة لمدافعته ..
ستتذَكرني أختي حينَ سقط أولُ قسطٍ من شعراتِي وارتعبتْ لمرأى جزء رأسي الأصلع لكنها قالت: ستحظين بتسريحة جديدة .. وراحت بكذب تولول في اركان غرفة المستشفى التي حطّ بهَا شبحُ الرحيلِ أجنحته -لو أنّهَا تقرأ- أوّد اخبارها أنها بارعةٌ جّدا بالتمثيل ولهَا ماضٍ يشهدُ لها بذلك خصوصًا في حضرَة أمّي لتتملّص من العقاب , وددت لو كنتِ من دسّ المخدّر بجسمي ووضعَ لي المحاليلَ وناولني جرعاتِ الدواء الذي كرهته طوَال عمري .. لكن لا بأس ستكونين أجملَ طبيبة في بلادي ..
أمّا تلكَ الحبيبة التي حملت لي الفرشاة والألوان وتعلمت الرسم لأجل أن تتمكن من إمسَاكِ يد رسّامةٍ قيدَ الموتِ .. رسمنَا لوحاتٍ كثيرة قبلَ أن تعجَز يدي بعد ذلك عن حمل الفرشاة ناهيكَ عن الرّسم ..
لم يكنْ لديّ وقتٌ كافٍ طبعا لأركبَ الدراجة في الطرقات الجبلية ولا أن أحظى برقصَةٍ تحتَ المطر لأنّ المطر باتَ أشبهَ بقطراتِ الآسيد على جلدي ..
لم أستطِع السّفر -بعد ذلك- لمسافة أبعد من غرفة المشفى المجاورة لغرفتي .. وكانَ ذلكَ اعظمَ سفرٍ لا يمكنُ أن يدركها شخصٌ لم يجرّب قيسَ ثقلِ رفعِ قدمٍ ووضعِ أخرى .. كانت هذه العملية -المشي- تستغرق ما بينَ الدقيقة والنصف الى الدقيقتين قبل ان يلزِمني الطبيب السرير مع جزءٍ يسير مرفوعٍ تحتَ رأسي لأتمكنّ من الصلاة .. لم أمشِ بعدَ ذلكَ أبدًا .,
في أيّامي الأخيرة كانت غرفتي تكادُ لا تخلو ساعة من الزائرين -وهو الأمرُ الذي أزعجني- لأنني لم أعتد في حياتي على المجالس المزدحمة وحكايا كبار السن التي صرتُ في المشفى أسمعها بشكل آني دون رغبة مني، فكنتُ أغلبَ الأحيان أدّعي النوم .. ومراتٍ إذا خلوتُ بنفسي أعدّ الثقب في جسدِي التي خلفتها الإبر ولازلت أرى آثارَ الحقنِ في جسدي مراكبَ صيّادين صغيرة غارقة وجدت منفذَا في بدني لم يبق منها خلا أجزاءَ صغيرة ظاهرة .. يذكّرني بقول الطبيب قبل 3 أيامٍ من وفاتي أن المرَض قد انتشر في جسدي الضعيف الذي بات وزنه 41 كيلوغرامًا فقط..
لم يعدْ بإمكاني النطق الا بالسبابة أشيرُ بهَا إلى الماء, لكنني أسمعُ الجميعِ ولازالت نبضاتُ قلبي قوية بحكايا 21 سنة .. أستطيعُ أن أشعُرَ بكلّ من حولي ..
فاتَ الأوان ..
28 فبراير 2019 الساعة الحادية عشر مساءً..
توقّف الخطّ الذي حاول مجموعةٌ من الأطبّاء أن يرتجّ ولو قليلاً بعد ولكنْ لا ألومهم يبدُو أنني لم أحيا لفجر الغد لكن بشكلٍ ما دخلت أشعة النور عروقي التي حلّ بها السرطان أحسست بشكل مختلف كما لو أن السكينة لمست عظامي بتحنان فأطفأت وجعها .. الآن توقفَ النبض وبدأ نبضٌ جديد لا يستشعره الجهاز الذي قرّر وفاتي وصرتُ أشعُرُ بخفّة كلّ شيء أستطيع التحليقَ وملامسة الأرض وكأن المرَض زالَ عنّي تمامًا , يدايَ صارت تطالُ رأسي بسلاسة افتقدتها في أواخر أنفاسي لكن ما أحزنني أنني لا أستطيع حمل الفُرشاة لكن أستطيع الرسم بأصابعي ..
كلّ الوجوه عليهَا غبَرة وددتُ لو أعتذرَ لكلّ فردٍ منهم وأخبرَهُ أنني أفضَل حالا لا أحتاجُ حُقَنًا بعَدَ الآن ولم يعدْ بجسمي وجع وعادَ شعري كمَا كان ..
أتمنّى أن الجميع بخيْرٍ الآن ، أنا حقا ممتنة هنا يا أمي صحيح ليس عندنا كخبزك الذي تُعدّين لكن كما تعلمون طعام الأموات لا يسمن ولا يغني من جوع..
أتمنّى أنكم اشتقتُم إليّ بشكلٍ لا يجعلكم بؤساءَ باكينَ كلما ذُكرتُ لكم ,
أتمنّى أن رسائلي لكم التي ساعدتنِي في كتابَتها غريبة كانت في زيارة مريضة أخرى ترقد بجانبي والتي تقرؤون الآن ساعَدت على تخفيف ألمِ فقدي
أتمنّى أن يدومَ ذكرُ اسمي -لا اقول ابدا- وانما لوهلة من الزمن حتّى اتعوّد على منزلي الجديد وجيراني الجدد ..
المكانُ ليسَ بهذَا السوءِ حقّا التقيتُ بالأمس رفات فتاة من نهجِ القبور المجاور كمَا تعلمونَ الأرواحُ لا تمنعهَا الحواجز ..
أحبّكم جميعًا ..
-
شيماءثم يُصبح في قلبك سلام.. مثلَ شجرة طيبة في ارضٍ بعيدة، عُمرها ألف عام، لا يعرفُ سبيلها إلا أنت ومن تُحب، وطير السماء…