ظلمنا الله حينَ خلق لنا الأُم.. أم منَّ علينا بِذلك؟!. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ظلمنا الله حينَ خلق لنا الأُم.. أم منَّ علينا بِذلك؟!.

  نشر في 10 نونبر 2016 .

يُحدثكم أحدهم ويقول:

فكّر لمرةٍ واحدة فقط ، ماذا لو أنَّ أحدًا ما تُحبّه كثيرًا قد خيّرك في لحظات ضعفك ، إمّا أن يسحب من فمك زُجاجة الأُكسجين الذي لا تستطيع التنفس بشكلٍ طبيعي دونها وإمّا أن يأخذَ منك شيئًا لا تستطيع التّخلي عنه إطلاقًا.

عِلمًا أن هذا الشخص يُحبّك كثيرًا وأنت تُحبه ، ويفعل ذلك لمصلحتك على حدِّ قوله.

ماذا تختار ، وفي الحالتين موتكَ آتٍ ..؟

فـ في الخيار الأول ستموت حتمًا ، وفي الخيار الثاني ستموت وأنت على قيدِ الحياة.

سأروي قِصةً صغيرة قبل أن أتطرق للموضوع ، الذي لا أريد أن أتطرق إليه مرةً ثانية أبدًا..

رأيتُ رَجلاً جالسًا على قارعة الطريق ، وكنت وقتها ذاهبًا من جامعتي إلى البيت مُسرعًا عليِّ ألحق بِحافلة الواحدة ظُهرًا ، فالحافلة الثانية سوف تتأخر ساعة ونصفَ الساعة.

وكانَ مشهدًا تَقّشعرُ لهُ الأبدان بحق ، ابتداءً من الهيبة التي كانت تطغى بشكلٍ كبير على المكان ، إلى البؤس المُقفر الذي كانَ يملئ المشهد ، انتهاءً بالصورةِ التي التقطتها عيني وذاكرتي ولم أستطيع أن التقطها بكاميرا أو أرسمها فَ يُشاهدها الناس.

وأكاد أجزم لو أنيّ كُنت رسّامًا ، لكانت لوحةً تتكلم عن كُل الوجع الذي تُقدمهُ لنا هذه الحياة.

حين وصلت ناحية الرجل الكهل ، وجدتهُ مُتّكئًا على شجرة يأكلها الذبول ويمتصُ ثباتها الريح ، وكأنه يُداعبها وهيَ تبكي على هذا الشخص الذي يجلس أسفلها ، كأنه يمتزج بالتراب حتى يَصيرُ طينًا لم يُذكر ولم تكن لهُ هويةً في يومٍ من الأيام.

كان الرجل ذو شعرٍ طويل يجتاحه اللون الرمادي والغُبار ، وعينان مُمتلئتان بالخيبة التي تصرخ دمعًا ونظرات تثقب جسدي ، كان نحيلًا حتى أن عظام وجهه قد برزت وكأنها تُعلن اقتراب عِناقها دود القبر وشواهده.

وهكذا .. فهوَ والشجرة قدْ شكّلا لوحةً واحدة ، وكأنّه منها .. وهيَ منه.

وقتها ، دُهشت .. كان شيئًا ما يُجبرني أن أتوقف .. أن أُكلّمه ، أن اقتحم هذه الصورة وأشكلَ منها لونًا ما.

جلست بِقربه وقدسية الصمت تجتاح المكان وُتُجبرنا على النظر فقط .. على النظر والتّفكر .. كم أننا نُشبه الحياة .. وكم يشبهنا هذا الموت الذي يركض نحونا لنستقبله بضحكةٍ كُنّا نُخبأها للحياة لو أنها تنازلت أمامنا قليلاً ، لو أنّها أعطتنا فُرصة لنتصالح مع أنفسنا ونبتسم.

ولكن تِلك هيَ أقدارنا .. أن نرصف الحزن بغبطة على امتداد شوارع البؤس التي تحضننا و نحن نرضع غثيانها منّا ومن ذواتنا المريضة دون إرادة.

سألته أن نأكل الطعام الذي كُنت سأجلبه معي للبيت ، وبالفعل تناولنا وانتهينا ، ثم قلت له : ما بك؟.

فَـأجابني جوابًا حالَ بيني وبين الكلام مرةً أُخرى ، فما فتئت أن سمعته وابتسمت له وذهبت والدمع يشرب كل شئ أمامي .. ليغصَّ بي.

قال لي : سرقتني أُمي من نفسي حين ماتت ، سرقتني الحياة.

كُلّ من تركني وحيدًا وهاجر أخذَ قلبي والدمع.

في هذه الحياة يا بُني عليك أن تتعلم كيف تخسر.

فأن تربح فالأغبياء يفعلون ذلك ، أما أن تُدّرب قلبك على الخسارة فَهُنا تكمنُ الصعوبة يا بُني ، ويكمن لغزُ العالم.

هاجر كلَّ من أُحبهم .. ولم تترك لي هذا الدُنيا إلا تلك الشجرة التي سَتحاول دفني حينَ أموت.

لا أُريد شيئًا منك ، ولا من الحياة .. لا أُريد شيئًا من الله .. أُريد رحمًا دافئًا لأبتسم.. أُريد دمعًا دافئًا لأبكي.

أُريد وجعًا أكثر ليُصيب جسدي الخدر ، فلا أعود أشعر بشيء..

صرتُ في الثمانين يا بُني ، ولا زلت أبكي كُلَّ ليلة وأنتحب وأقول : أُريد أمي الذي أخذها المرض من ثلاثين سنة وللآن لم تعود.

هُنا مكاني ماتت أُمي حين عُدنا من عند الطبيب ، وهنا لا زلت أنتظرها.

هُنا فقدتني الحياة .. هُنا تلطخت يداي بِـ دم التُراب.

هُنا ولدتِ .. وهُنا أموت ، فاذهب الآن قبل أن يُخطئ سهم الموت .. بيني وبينك.

حين انتهى لم أودعه .. لبست الصمت من جديد وعدتُ للبيت .. والهذيان يأكل أطرافي ويمنعني من أن أمضي.

بعد هذا ، لطالما تساءلت بيني وبين نـفسي ، هل تعمّد الله أن يظلمنا حين خلقَ لنا الأُمهات ، هل تعمّد الله قهرنا حين جعلَ لنا أُمًا نتعلق بها حدَّ الحب الذي يقتل صاحبه ، فلا نعودُ قادرين على المُضي قُدمًا ولا خُطوةً واحدة.

أم في المُقابل قد أنعمَ علينا ، وأراد أن يجعل الجنة مُتجلية في الأرض على هيئة الأُم ، ولكن هُنا المعضلة ، أنَّ هذه الجنة في يومٍ من الأيام ذاهبة ، ومصيرنا النهائي في هذه الحياة الجحيم دون أُم.

ولطالما تساءل أحدكم أيضًا ، إذا متُّ قبل أُمي ستكون كارثة بالنسبة لها ، وإذا ماتت هيَ قبلي كانت كارثةً بالنسبة لي.

هذه هي بعض الأسئلة التي لم أستطيع أن أُدرك إجابةً صغيرةً لها ، هيَ دوامة من التساؤلات التي تُفضي بي دائمًا ، الى العدم .. إلى اللاموجود .. إلى اللاشيء.

وربما سيعتبر أحدكم أنَّ هذا الكلام ساذجًا الشيء ، وربما أيضًا أنيّ لم أصل للجحيم الالهي الذي كُنت قد تكلمت عنه ، ولكن في يومٍ من الأيام سوف نصلُ جميعنا لا محال ، وأحدهم سبقنا.

أشعر أنيّ قد أجحدت بأمر الله ، وإنطلاقًا من الدين ، أكون قد كفرت بأشياء لا تعنيني.

والبعض لا يستطيع أن يسأل الله ، ولكنِّ أستطيع ، وآخرهم لا يقدر على الشك ، ولكني أشكّ وأنا واعٍ لتكلفة هذا الأمرِ تمامًا.

قد تأتِ الجنة في هذه الحياة على أشكالٍ عدّة ، ولكنيّ لم أُجربُ إلا صِنفًا واحدًا منها ، وهذا من حُسن حظي ، ألا وهيَ الأم.

الأم ، الكائن الملائكي الذي ، يموت كلَّ يومٍ ألفَ ميتةٍ ولا يُشعرنا بذلك.

الأم ، الكائن الملائكي ، الذي كُنت عندما أخاف ليلاً وأنا طِفلاً ، أهرعُ إليها وأتوسد يدها طوال الليل، فأشعر أنَّ قِوى العالم أجمع ، عاجزةٌ على أن تَمسّ شعرة من رأسي.

لِتستيقظَ فتُشاهدُ يدها قد امتلئت زُرقةً و وجعًا من رأسي وهيُ تضحك.

وحين كان تمنعني أن أنام قُربها ، لاعتاد النومَ وحيدًا ، ومن أجل أخي الصغير الذي ينام معي في الغُرفة.

فما بدرَ مني إلا أنيّ وضعتُ هيكلاً يُشبه جسدي على السرير كي لا يشعر بِغيابي أخي ، وأسبقها إلى غُرفتها قبل موعد نومها بخمسِ دقائق ، وأختبئ أسفل السرير حتى تغفو ، ومن ثم أصعد خِلسة قرب أقدامِها وأبتسم وأنام.

عندما أستيقظ صباحًا أشعر وأنَّ الهيكل الذي وضعته قد وضعَ شبيهًا له في السرير كي لا يشعر بغيابه أحد ، فـينتظرني حتى أنام ، ليتوسد شعرها إلى الصباح.

وهكذا كانت كُلّ أشيائي تتبعني حين أتبعها ، كُل الأشياء..

أُمي التي كانت تتعثرُ بأقدامي أمام الناس ، فتستحي ، ثمَّ أشعر أنها ستضربني ، فَتُقبّلني بحنان ، ونمضي إلى البيت.

_____

أعودُ وأسأل أخيرًا ، إذا ما كان الله قادرًا على كُل شيء ، فـلماذا لم يجعل تلك العاطفة أقل بقليل ، لنستطيع التنفس فقط بعد أن تذهب بعيدًا عنّا.

رغم كُل شيء ، أنا مُقتنعٌ تمامًا ، أنَّ الله حين خلق لنا الأُم ، أراد أن يُرينا جزءً من جبروته ، وقَبسًا من نوره وعطفه وحنانه على خَلقه ، أنا أشكر الله جدًا ، ولكن نوع من الاحتجاج داخلي يُؤرقني دائمًا وسيظل هكذا..

و أُدرك تمامًا ، أنيّ لا أخسر شيئًا ، ولكن إذا ما فقدت قِماشةً من طرفِ عباءة أُمي ، أكون قد خسرت جيشي الوحيد أمام هذا العالم المُمتلىء بالسواد اللانهائي.

لكن رغم كل شيء ، أنا ضلع أُمي الذي لا يموتُ أبدآ.



  • أحمد محمد يحيى
    21 عامًا.. طالب قسم الحقوق في الجامعة اللبنانية \ كاتب وقاص لدى عدّة مدونات.
   نشر في 10 نونبر 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا