يا للغرام وما يفعله بأهله! إنه يسوي بين الأعمى والبصير والأبله والعاقل، إذا تملكك لا يفلتك ويحرمك من عقلك، يقولون: إن مشكلة المغرم أنه لا يرى عيوب المغرم به، لكني أرى المعضلة الكبرى أن الغرام أحيانا يُحول هذه العيوب مميزات في عين المغرم، يريه المذمة أو النقيصة فضيلة إذا أتى بها المغرم به، كالسكير المغرم بالخمر إذ يقول: يا لعظمة الخمر إنها تذهب عقلي!
وإني أعتذر لمعظم القراء، إذ سيخيب ظنهم حينما يدركون أنني لن أتكلم عن الغرام الذي حضر في عقولهم وأذهانهم حينما قرؤوا العنوان والبداية، مع أن هذا نوعا من أنواع الغرام، -الغرام المتعارف عليه بين المحبين والعاشقين- ، لكن قد يغرم الشخص بكتاب قرأه أو فكرة تبناها أو عادة اعتادها أو بلد أحبه أو نادٍ يشجعه إلى آخر تلكم الأمور، وهاهنا تقع المشكلة المشار إليها من غض الطرف عن العيوب ويضاف إليها التعصب وعدم قبول الرأي الآخر و وجهات النظر.
ولقد وقع بعض من أهل الشرق في غرام أهل الغرب فهؤلاء من العرب، ينفرون من هويتهم ولغتهم بل يتجاوز الأمر أحيانا إلى دينهم، قد ولوا وجههم شطر أوروبا ومثيلاتها من دول القارات المجاورة، ينظرون إليهم كحالة مثالية لا ريب فيها يحنقون على دينهم وعروبتهم ولغتهم.
وقد كنت واحدا ممن يرى هذه المثالية لكن استيقظت فجأة على عنصرية وتطرف من الداعين إلى نبذ ذلك، ورأيت إرهابا من المحاربين له، وانتهاكا للحريات ممن تصدروا لحمايتها.
ومع ذلك فأنا لا أكتب لعرض جرائرهم ولا أخطائهم، فحينما أقول: انظر لهؤلاء أترى تقدمهم؟ أترى مستوى المعيشة والتعليم والرعاية الصحية؟ أترى حقوق المواطن المكفولة بالقانون؟ إنهم سيئون!، فما هذا إلا ضرب من الجنون وقلة العقل، لن يصيبهم هذا القول ولن يصل إليهم، إذ يصاغ من بيننا ويوجه إلينا، فترى مثل هذه الأقاويل مقومة للكسل والتراخي، ومن ثم نتخذها عذرا للإخفاق.
لكن هذه الجمل كتبت لتكون تنبيها للمغرمين الذين فتنوا بهؤلاء، منهم من يرى الحل الوحيد في الامتثال والتقليد، ومنهم من يتحامل على دينه أو لغته فيحملهما عجزه ونقصه، ومنهم من يدعو إلى نقل ثقافة أو سلوك قد يكون مخالفا لدينه وثقافته أو حتى للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
ومثل هؤلاء: المغرم بالحريات في مجتمعهم، -وحقا نأمل أن ننال شيء منها في مجتمعاتنا-وهذه ليست المسألة،
إن كل حرية مقيدة بقوانين، حتى أبسط تعريف للحرية (أنت حر ما لم تضر) مقيد بعدم الحاق الضرر بالآخرين،
المشكلة في اتخاذ غيرك مرجعا لك فتكون حريتك مقيدة بقيوده هو، أو تسيء الفهم فتظنها بلا قيود.
فمثلا في كثير من هذه البلاد الأوربية لا يستطيع المسلم أن يحصل علي حق من أبسط الحقوق في طعامه كاللحم مثلا إذ كما نعرف في شريعتنا لكي تستطيع أن تأكل من لحوم الأنعام لابد أن يذكر اسم الله عليها ثم تذبح على الطريقة الاسلامية.
هذه الدول سنت قوانين بمنع الذبح وفقا لهذه الشرائع، يقولون ذلك لمراعاة حقوق الحيوان ويجب صعق الحيوان قبل ذبحه حتى لا يشعر بالألم!1
وبناء على ما سبق لن يستطيع المسلم هناك تأدية شعيرة عظيمة من شعائر دينه، ذبح الأضاحي يوم عيد الأضحى!
اختفت حرية ممارسة الشعائر الدينية حينما تعارضت مع القانون.
وعلى الجانب الآخر في الهند هناك قوانين تحظر أكل لحوم الأبقار لقدسيتها دون مراعاة أن هذه القوانين تشكل تمييزا ضد المسلمين والمسيحيين والطبقة الفقيرة ،التي تعتمد على اللحم الرخيص كمصدر للبروتين.2
وآمل ألا يظن القاريء أننا هنا لطرح قضية الحرية أو للحديث عن الصعق أو الذبح فما هذا إلا تمهيد لعرض الفكرة التي نوضحها.
إننا نعيب على هذا الَّذي يرفض دينه وطبيعة مجتمعه وثقافته مرجعا للحريات، ويتخذ مرجعه من هذه البلاد لتقدمها دون مراعاة لاختلاف الثقافات والطباع، فحتى في حريته يكون مقيدا وتابعا على غير هدى أو بينة.
وذاك الذي يضع الإسلام سببا لما نحن فيه وينادي بفصله عن الحياة أو التحرر منه، يقول: إنهم وصلوا للفضاء وما زلتم تتحدثون عن الوضوء والطهارة، وأنت لا تعرف ما العلاقة، ولما يربط بين تأخره العلمي والدين، لكنه يقف صامتا عاجزا يسود وجهه وهو كظيم حينما يعلم أن رواد فضاء من محطة الفضاء الدولية، قد أهدوا البابا فرنسيس بابا الفاتيكان بذلة فضاء زرقاء صنعت خصيصا له، تحمل اسمه ولها وشاح بابوي أبيض لتمييزه عن غيره ممن يزورون العالم الخارجي.
كما أنه أجرى مكالمة معهم في الفضاء من قلب الفتيكان يحدثهم عبر شاشة كبيرة نصبت أمامه.
وهنا سقط في يديه فلا يستطيع أن يعيب على سادته ما فعلوه من تقديس لمكانة دينهم أمام العالم فلن يتكلم عن الفصل بين الدين والعلم ولكنه يعود تارة أخرى للإسلام ليقدح فيه مرة أخرى قائلا: انظر بابا الفتيكان يتحدث مع رواد الفضاء والشيوخ يتحدثون عن اللحية والحجاب!
والحقيقة أن ذلك الحانق يتخذ من الهجوم على الدين والمجتمع ما يستر به جهله، فيظل كذلك باليل والنهار يبكي ويتباكي ويلمز المتمسكين بدينهم وأخلاقهم، فلا هو قدم ما ينفعه أو ينفع غيره، ولم يصل لمنزلة الملتزم المستمسك بمبادئه.
ما كان الدين ولا اللغة ولا الهوية عائقا أمام أحد في طريق التقدم، إن المغرمين عادة ما ينفروا من هويتهم ودينهم ولغتهم محاولين نسب أنفسهم لهوية أو مجتمع آخر، لكنهم في آخر الأمر غير مقبولين عند هؤلاء ولا هؤلاء، فلو لجأ إلى الغرب فهو عندهم من أهل الشرق الأقل تقدما وإن استقر في الشرق فهو متمرد لم يضف شيئا غير البكاء والعويل.
إن المجتمعات لا تبنى على التقليد واتباع الآخرين، وحينما تسلك الطريق الصحيح لن تحول الهوية أو الدين أو اللغة بينك وبينه، فلا حرج أن نستفيد من تجربة الغير ونعمل بها، بل عين الصواب أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا، لكن لا تكن من المغرمين.
............................................................................
مصادر
1/ https://bit.ly/2Ao9e4N
2/ https://bit.ly/2LMGIhD
-
محمد أشرف درويشطالب جامعي 22 سنة أحب الكتابة
التعليقات
"بل عين الصواب أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا، لكن لا تكن من المغرمين."
مقالة رائعة تستحق القراءة و الوقت ، شكراً لك على هذا الفكر و الرقي
و انا أقرأ مقالك كنت افكر ان ما كان ممكنا وضع كلمة أخرى مكان مغرم ..ربما لارتباط الكلمة بحب زائد عن حده لدى البشر في علاقاتهم ، و لكن ان تصف هذ الحب و التعلق ببلد لا أعرف ان ما كان ممكنا ان نختار كلمة أخرى.,ربما كلمة انبهار او هيام..
اعذرني على فرضيتي و لكن اللغة العربية بحر شاسع من الكلمات و المواضع.
فاستعمالك لهذه اللفظة كان بمحله، وكان مثيرًا للإنتباه بشكل غير مبتذل، ولهذا كان بحق يورث في القلب حسرة .
سعيدة لقراءتي المقال، وأضم رأيي إلى (Gloomy)، بالتوفيق .