أما نحن يا صديقتي ، فعوضنا خيباتنا المتتالية ...
جبنا شوارع طويلة ، لاصطياد ابتسامة عابرة ، آمنًّا بالديانات كلها ، آملا في إله يرسل جيوشا من الملائكة ليخوضوا حروبنا معنا ، دفاعا عن مبادئ لم نعد واثقين فيها ... قرأنا ابن سيرين ، وفرويد ، لعلنا نعرف يوما سبب تلك الوطأة التي تتركها أحلامنا علينا.
صحيح ، نحن لم ننجح في حفظ ضحكات أحبائنا داخل خزانات حصينة في قلوبنا ، ولم نتقن يوما رمي سهامنا في قلوب الآخرين ، فلم نحظ يوما بحب محارب ، لكننا حين سنغادر ، سنترك ورائنا شوارعًا مليئة بهمس أصواتنا ، بقصائد تكاد تخلق الحب خلقا في قلوب الناس ، مدنا مليئة بهتافات تكدر صفو التواطؤ الجمعي مع القبح ، وهجرنا أولئك الذين سيقضون أعمارهم بتعريف أنفسهم ، كمتنبئين ، لقد سحرتنا روح الأنبياء ، فبشرنا مثلهم بأديان لم يصدقها أحد ، وأحببنا من لم يحبوننا ، لكننا لم ندر خدنا الأيسر ،
أما نحن يا صديقتي ، فلم يفلح هجر من نحبهم، لنا أن يثنينا عن مواصلة السير فوق خطواتهم ، لم يفلح سير الزمان سريعا أن يخفف رغبتنا في محاولة تقبيل آثار مرورهم الخاطف فوق دنيا لا نملك العزيمة لنجوبها كلها ، فسرنا القرآن في حلقات المساجد ، وناقشنا ماركس في جلسات المقاهي ، لعبنا أطفالا في أي شارع اتسع لطفلين يسابقان بعضهما ، ثم سرنا في تلك الشوارع شبابا مفكرين في تغيير العالم ، ولم نحاول يوما ضم السبابة والإبهام للتظاهر بالقبض على الشمس.
كنا شيوعيين دوما ، فتركنا ما لكل الناس لكل الناس
مؤمنين دوما ، فأرشدنا الناس لجنات لم نرها
متعصبين دوما ، فلم تثنينا جراح الرأس عن خبط الجدران برؤسنا لهدمها
أوفياء دوما ، فلم نراجع أحدا في أمل تركناه عنده
ملحميين دوما ، فاخترنا من الشوارع أكثرها ازدحاما للسير فيها
طفوليين دوما ، فلم نصنع الفلك خشية أن نخطئ عد أصدقائنا وقت الرحيل فنترك ورائنا أحد نحبه ويحبنا.
نوح صنع سفينته سريعا ، ثم أفنى عمره في التأكد من وجود أصدقائه ، أما نحن ، فأعمارنا قصيرة ، لم نر المسيح مصلوبا ، ولم ندرك الحسين وحيدا محاصرا ، لكننا ولدنا وفي قلوبنا أثر لخذلان ما ، فسقينا مع موسى المرأتين الضعيفتين ، ثم ذهبنا ، نستريح تحت نفس الشجرة ، ولم يأتنا أحد بدعوة للزواج ، فكدرت نبوتنا ، بعتاب مستمر للسماء.
أما نحن ، فكانت تكفينا ضحكات بعيدة ، تأتي عبر شبكات معقدة للهواتف ، لنصنع منها حبا جميلا ، ومحبين ملحميين ، لا يمكننا استبدالهم بعدها بأي شئ ، لم تكن تنقصنا مراوغات لغوية لصنع حكايات أخرى بنهايات أقل كآبة ، ولا بلاغة تزين كل حكاية بمجازاتها الخاصة لتصطنع أصالة زائفة ، لقد أحببنا كوننا أغبياء في حبنا ، وحاربنا احتمالات الشفقة البغيضة عند الآخرين ، بقدرتنا على السب في وجوههم لا من خلف ظهورهم.
سنترك ما لكل الناس لكل الناس ، صباحات دافئة على مدن نائمة ، شوارع خالية إلا من قلائل يجوبونها وحدهم ، موسيقى صاخبة في حفلات ليلية ، نكات بذيئة في المقاهي ، دفء الأجساد الملتحمة ، رسوم طفولية لعوالم بحرية متخيلة ، ابتسامات العابرين ، زحمة الشواطئ، ملمس الرمال ، مذاق البحر ، أحلام اليقظة ، ضجة الأسواق ، ألم الأقدام عند السائرين طويلا ، والخائفين أن تنتهي دروبهم الحميمية فجأة ، نوم المنهكين ، ارتواء الصائمين ، فرحة الأعياد ، أحلام تغيير العالم ، صوت الرعد ، حفيف الأشجار المنسية في الغابات ، دعاء المسنات ، المكر الطفولي ، الأثر الغريب لضحكات الاصدقاء حين تأتي مندفعة من ورائنا قبل أن نراهم.
سنترك ما لكل الناس لكل الناس ، ونأخذ معنا لحظاتنا الحميمية ، شكاوى أصدقائنا ، تجاربنا الأولى ، نقاشاتنا الحماسية ، رنة أصواتنا ، إشارات أيدينا في الحديث ، شكل خطواتنا ، ونغادر، لا آسفين كثيرا ، ولا فرحين بشدة ، كنا كما نحن ، وأحبننا ذلك.
-
أحمد جمالأحب الصالحين ولستُ منهم