وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَريـبِ نَسِيـبُ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَريـبِ نَسِيـبُ

  نشر في 20 غشت 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

ورد أن امرىء القيس ذهب في رحلة متوجها إلى قيصر ملك الروم آملا أن يساعده بجيش لاستعادة ملكه الضائع.

فلما وفد على قيصر رحب به وقربه وصار امرؤ القيس من ندمائه، وكان لقيصر ابنة نظرت يوما إلى امرىء القيس فأعجبها فهويته، واتصل ما بينها، فحدث امرؤ القيس بذلك بعض أصحابه، وكان بينهم واحد اسمه الطماح بن قيس سمع ذلك فأسرها في نفسه، لتشتعل في قلبه عداوة قديمة إذ أن أبا امرىء القيس قتل والد الطماح.

فلما أرسل قيصر جيشا مع امرىء القيس وانصرف الجيش، ذهب هذا الطماح إلى قيصر وقال له: إن امرىء القيس يواصل ابنتك، وقد يشهر بها في شعره فيفضحها ويفضحك.

فأرسل قيصر لامرىء القيس حلة من حلله من الذهب وطلاها سما من الداخل، فلما لبسها أسرع السم في جلده فتقرح وتساقط جلده حتى تساقط بعض لحمه، فلما وصل إلى أنقرة وأيقن أن الموت آت لا محالة وقف على قبر وسأل عنه، فقالوا إنه قبر لابنة من بنات الروم فأنشد يقول:

                      أجَـارَتَنـا إِنَّ الخُطُـوبَ تَنـوبُ        وإنِّـي مُقِيـمٌ مَا أَقَـامَ عَسِيـبُ

                     أجـارَتَنـا إنّـا غَرِيبَـانِ هَـاهُـنَا           وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَريـبِ نَسِيـبُ1

نترك الملك الضليل امرؤ القيس يحتضر ونقف على ما تضمن من شطر البيت الثاني من معنى لا يندثر مع تغير الدهر وتقلب الزمان، ((كل غريب للغريب نسيب) ما انتساب الغريب للغريب؟ وما صلة القرابة؟ أهو النسب الآدمي الذي يرد إليه كل الخلائق؟ أم أن الغرباء يشتركون في الغربة فتكون بمثابة صلة القرابة بين المغتربين.

وإن الغربة لفاضحة كاشفة إذ إنها تظهر ما يخفى في الصدور وتكشف خوالج النفس، فتجد إنسان غير الذي واطنته، وخادعة تحسب فيها العدو صديقا، فشعور الغربة يبث في النفس ما يجعلها تسارع في اتخاذ الأخلاء على غير تمهل، فتريك سرابا مخادعا في صحراء فما إن جئته لن تجد الماء.

وعلى الرغم من ذلك فإن هناك معنى آخر لقولنا، -إن الغريب للغريب قريب-، ولن تخلو حياتك من موقف وجدت العون من الغريب، في وقت خذلك فيه ذوو القربى، أو أعرضوا عنك، والخذلان من المقربين لا يقتصر على معنى التخلي المتعارف عليه بين العامة وحسب، إنما يضاف عليه انكسار عضد تشتد به، ودرعا تحول إلى نصل، وألم في النفس أشد مضاضة من ألم الجسد.

ولا يقتصر المراد على قريب الدم والنسب إنما كل من قرًبت، ففي حياتك الأولى كل ما غير العائلة غريبا إلى أن تخالط الأقران في نعومة أظافرك فتتخذ منهم الصديق ليصير غيرهم من الغرباء، ثم تنتقل في الحياة من مرحلة إلى مرحلة ومن حال إلى حال فتُقرب من الناس وتُبعد، فما سوى ذي القربي يبدأ غريبا حتى تألفه أو يطمئن به قلبك فيصير قريبا.

فما بال المرء ما يلبث أن يرضى بصاحب، فيتغير ويتبدل، ولِم ينقلب على غير حاله التي ارتضاها منه؟، وهذا يُشْكل على الكثير ويضعهم في حيرة من أمرهم.

أهي النفس البشرية وما يعتريها من نقص يتطلع إلى الكمال، وبحث عن منفعتها ومصالحها، فتتزين بخلاف ما تبطن فلا يَمِيز المرء الماذقين والكاشحين من المخلصين الصادقين.

أم إنها الآمال التي نرتبط بها جزافا، فما تلبث أن تتحطم بريب المنون، فتريك ما كنت عنه في غفلة، فعند الشدائد تبلى السرائر ثم تدرك وقتها القريب من الغريب.

ومع هذا فإن لطريقة التنافس في الحياة تأثير لا يقل عما سبق من الأسباب، فإن من الناس من يستمد نجاحه من فشل الآخرين، وراحته من ألمهم، إذ ليست الغاية عنده أن يصل بل أن يسبق حتى لو كان هذا السبق لا يعتد به كنجاح أو وصول.

ترى مثل هؤلاء بين الناس لا يقنعون بما هم عليه وإن كان كثيرا إلا أن يكون أكثر ممن يحيطون بهم، بل يحسبون الإخفاق انتصارا إذا كان فشلهم أقل منهم.

وإن للنشأة يد في ذلك، إذ يُوعز في عقول الصبية ما قد يحول التنافس إلى تباغض، أو يبعده عن المسار المختار الصحيح، أو يضيق حدود النجاح وآفاقه إذ بدلا من أن ينشأ مقارعا للمراجع من العلماء والأسماء البارزة في شتى دروب الحياة، ينشغل بالمقارنة مع أبناء عمومته وخالته، وهذا من عمل بعض الآباء والأمهات، ليتخذوا أبنائهم مفاخرة وتباهيا في مجالس العائلة.

وهكذا تنمو في عقول الصبية أن أمرهم مرهون بمن حولهم من أقارب وأقران، فيكرهون الخير لمن حولهم، وهم على ذاك الحال ما انتقلوا إلى قوم أو انضموا إلى جماعة، فيضيق مسارهم التنافسي ويكون مثلهم وقمتهم ندا من بينهم لا يزيد عنهم شيئا إلا قليلا، فيستنزفون طاقتهم ليصلوا إليهم، فإن لم يستطيعوا لذلك سبيلا، تتحول هذه الطاقات إلى طاقات حقد وبغض وكراهية تكن في الصدور ليظهر تأثيرها في الأقوال والأفعال والمواقف.

ولا ريب أن المرء يسعى لنفسه في المقام الأول، ولا يعاب أحد لذلك، لكن هذا السعي لن يعيقه أبدا سعي الآخرين ولن يضر به منفعة الآخرين، ولن ينفعه ضررهم.

القرابة شعور قبل أن تكون نسبا ورحما، فالغريب قريب إذا خلى القلب من البغضاء ونزع منه الغل، فكل من تجده في محنتك حاضرا وفي حزنك مواسيا وفي فرحك مشاركا فهو من ذوي القربى، وكل من أعرض عنك وبدت لك صفحته بما يحمله من ضغن فهو غريب، وإن كان من العشيرة أو كنت تعده صديقا حميما.

................................................

1: القصة منقولة بتصرف


  • 1

   نشر في 20 غشت 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا