راحلون لا محالة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

راحلون لا محالة

  نشر في 06 غشت 2017 .

لا شيء هنا..

لا جديد يطرأ على هذا الروتين المقيت، هذه الأزقة الموغلة في القدم تبقى دائما وفية لعادتها الأزلية بالبقاء على هيأتها الجامدة التي تشبه ساحة مهملة تغص بالجثث وفضلات الحضارة .

لقد بلغت من العمر مايقرب من رُبع قرن، واقتربت من الموتِ خطوة أخرى.

في عديد السنوات الماضية، كنتُ أخاف بشكل جنوني تقدّم السنون، إقترابي من النهاية، وأقوم في كل ذكرى ولادتي عند منتصف اللّيل بكتابة صفحات بيضاء، أعلن بها بداية جديدة لي لا أخطأ بعدها. كأنني قديسة تحبِّرُ صكَّ غفران لنفسها، أو باكية على حائط المبكي تُريد الصفح وأن تبدأ من جديد.

ذات مساء ,توقفت عن هذه العادة ربما بسبب إكتشاف بسيط وهو : " أن الزمن يمكن أن يأخذ أي شكل أو إتجاه إلا أن يكون مستقيما , نحنُ لا نتقدّم في العمر، نحن أقربُ إلى الدوران من السير بخطى واثقة "

تتلاطم الأفكار والمفاهيم وتتصارعُ برأسي التساؤلات ، من أين أتيت حين ولدت بصحراء العرب؟ وإلى أين أمضي؟ أين تكمُن الحقيقة؟ أصبحت تتبيّنُ لي الذكرى هي الحقيقة .

وفي هذه الساعة تحديدا ، وفي موجة الحرّ الحالية، أفكر أن هناك من يقضي يومه في الصحاري يعمل تحت درجة حرارة تفوق الخمسون بكثير، وهناك جنود يحرسون الحدود بزي ثقيل وسلاحٌ ثقيل وهناك آخرون يقاتلون قوات الشر في بلدان تنام على إنفجار لتصحو على قصف، هناك أمهات تلدن تحت الأشجار، وأمهات ترتدين السواد حُزنا على أبنائهُن الراحلين وآخرون يقطعون عشرات الكيلومترات لجلب مياه لعائلاتهم، وهناك من يكون الإستحمام بالنسبة إليهم حلما شبه مستحيل، وهناك من يتمنون أن يمتلكوا ثلاجة، وأقصى النعيم بالنسبة إليهم أن يمتلكوا حنفية في بيوتهم وفي أوطان أخرى، هناك أيضا من يقضي يومه تحت مكيف الهواء البارد وهو يشتكي من الحر وهناك من يقصف صفحات الفايسبوك بالسخرية من اللواتي تذوب مساحيق تجميلهن تحت الشمس وهناك من يشتكي من رائحة العرق وهناك من يقضي يومه في تجربة أرقام هواتف عشوائية لقتل الوقت وقتل القلق، وإزعاج الآخرين

وهناك من يشتكي أنه لا يستطيع ممارسة عادته السرية في ظل هذا الحر ويشتكي من ذلك علنا على صفحته الشخصية لنيل الإعجاب على" جرأته "و" تحرره "من كل القيود ,وهناك من يشتكي من إجتياح الناس للشواطئ ( هم نفسهم من يجتاحون العاصمة للدراسة(هناك كثيرون منهم يجتاحون الحياة ويقطعون أنفاس الآخرين، أنانيتهم هي التي تحرق العاصمة بالقرف والعفن، وجهلهم من يجعل الشمس تشتعل غضبا، وعقولهم الميكروسكوبية تُنافس البكتيريا في الضآلة ، وأرواحهم الشقية تنافس الهمجية على عرشها العريض ، وشتان بين هنا وهناك .

الٱن فهمتُ كلّ شيء , نحن لانمتلكُ حقائق، بل مناطق إرتياح , أهوي باحثة عن الحب، عن الحقيقة والجمال، بحثا عن العدالة، أحاول أن أكتب أو أتكلّم وأن أصرخ وأن أقول : لاَ، أحاول أن أفعل شيئًا في هذا العالم ، أن أجد الله ، أن ألملِم حقيقة بائسة غير موجودة يظن الجميع أنه يملكها. وعندما ينهكني بؤس هذا العالم ،أعود للإحتماء بعزلتي في منازلي القديمة بين ملائكية فيروز , و وحي درويش وكوابيس كافكا وخيال غارسيا ماركيز وعبقرية دوستويفسكي وثورية نيرودا وأحاسيس لوركا وعبثية صمويل بيكيت وإنتظار غودو, وذاكرة واسيني الأعرج ويأس ميلان كونديرا , وجبة الحلاج وجدلية سيف الدولة ,وطفولة مكسيم غوركي وعشق جلال الدين الرومي وفلسفة زوربا , وكل تلك الأشياء الغريبة فقط عندما يُحاصرني الواقع الذي لا أجيد تفكيك مفرداته، ألجأ لهم هناك ,هم من ينيرون لي الطريق , ربما تعلمتُ الكثير في فترة قصيرة، وربما لم أتعلّم شيئًا، إلاَّ أنني صرتُ أحمل بعض الثوابت الواهنة ، كأن لا أٌناقش كثيرًا، وأن أتأكد أننا بعيدون جدًّا عن أن نُمارس نشاطا فكريا حقيقيًّا في هذا الوجود ، نحن نتخبط ، ونسعى، ثم نموت.

الثابت الأكبر في النهاية هو : "أننا راحلون لا محالة وأن الموت بدأ بالتفطن لوجودنا أحياء "

بقلم / إيمان مصطفي محمود

اللوحة ل #هانز_هولبن

28/6/2017



  • إيمان مصطفي محمود
    بإختصار : كاتبة أدبية وصحفية ناشئة -في جريدة شباب مصر الإلكترونية وصحيفة الحوار المتمدن ومنصة هواء للكتابة الإبداعية وأنتلجنسيا للثقافة والفكر الحر وعضو ناشئ في جمعية تونس الفتاة بتونس
   نشر في 06 غشت 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا