على عينك يا مواطن! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

على عينك يا مواطن!

  نشر في 14 فبراير 2016 .

كتبت: هند دويكات 


"أتى المرض لينقذك مؤقتا، فإن لم يفلح في إزهاق روحك البلهاء فلا تجزع، لن تكلفنا هذه المهمة الشيء الكثير" ..

كفعل صاعقة، قالها لي صاحب الوجه المقيت والسترة التي لا أذكر لونها ولن أذكره، ثم توارى عن ناظري، فألجم كل أمن ارتجيته من لجوئي نصف القسري إلى السرير ذي الغطاء المتواضع في مشفى حكومته.

لم يكن الالتهاب الرئوي أمراً ملحاً يستدعي دخولي إلى هناك، إذ كانت الآلام روتينية محتملة، أشبه بآلام موظف ينتظر اليوم الثلاثين من شهره، ولكن هي حاجة المضطر - هكذا ينعتها أقاربي - إذا ما ارتكب حماقة ما في حق سلطة تحكمه أو حكم مسلط عليه.

وتجلت نصيحتهم بوجوب التغيب عن ساحة سجالاتي اليومية بالسفر أو التمارض أو العته إذا شئت، كتأجيل لقضاء قُضي أو يُقضى ..

مهما يكن، فالأسر بين أربعة جدران ههنا والحرية خارجها، كلاهما عندي في هذه الآونة سواء.

الزائرة التالية تقترب من زاوية الحجرة التي أوجدني فيها واجبي الوطني، لا بد أنها زيارة سلمية هذه المرة، فلا أظن أن رداءها الأبيض وعيناها المتعبتان تنمان عن تهديد موجه أو تبليغ حارق، وما لبثت أن حقنت وريدي بما جلبت من سائل "عليك العافية"، فاستعاد إدراكي نشاطه بدل أن يغيب، معلنا عودتي إلى ثلاثة أيام مضت ..

عندما تلقيت دعوة لحضور أمسية ثقافية بعنوان "محاصيل الوطن لأبنائه وبهم"، تحت رعاية وزير الزراعة - أطال الله ولايته الافتراضية - كانت فرصة ماسية لأتمعن حكمة ذلك الوجه وخبرة كفيه في الثرى الذي يفتأ يتحدث عن جودته وخيره!

كعادتي وصلت مبكراً إلى القاعة كي أنتقي مقعداً يكشف القائمين والقاعدين والزاحفين بهمة لتحقيق مصالح عليا، وما أن عثرت عليه حتى عاجلني تأنيب كائن ضخم "إلى الخلف يا أفندي، هذا المقعد وما أحاط به لفلان المدير وجماعته"، ويكأنه أعلن دخول وقت إحدى الصلوات ..

تنمرتُ بفك متراخٍ "أما من مكان آخر نجلس فيه سوى الخلف!"،

فانتهرني "كلامي عربي"، وليته نطق لغة إلّاها كي أعرف على الأقل أن المتحدث يعي ما يقول ولِمَ يقول ..

وأخيراً استقرّ بي البحث إلى موقع يليق بمثاليتي الكتعاء، الصف الأخير يا ليلتي، وعن جانبي الأيسر تجلس شخصية مهذبة، يكرر النظر إلى ساعته ثم يتنهد تنهيدة عاشق "مر على موعد البدء عشرون دقيقة، ولم يظهر معالي الوزير أو أحد من أعضاء الشرف"

بدا لي أنه قد انتسب إلى قوميتنا حديثا، فلم يؤقت ساعته حسب ضمائرنا المحلية، اقترحت عليه أن ينزع بطاريتها علّه يواكب تطور الأحداث فرمقني شزراً وتابع بشغف تمحيص وجوه الوالجين ..

انخفض مستوى الضجيج والمنتصبون أصبحوا كثر، وبرغم قصر قامتي وانحراف بصري إلا أنني أدركت أن الهم والمهمين قد حضروا للتو.

"أيها الحضور الأعزاء، باسمي وباسمكم جميعا، أرحب بضيوفنا الكرام، وعلى رأسهم حضرة مدير مكتب نائب معالي وزير الزراعة".

ها .. الوزير لم يحضر إذن، وعلى الأرجح سيمسك الميكروفون بعد هنيهة ذلك الضيف البديل صاحب الهيئة الصاروخية ليسهب في تقديم العذر الأجل نيابة عن مُرسله أو قاذفه، الذي توجه بالطبع لحضور مؤتمر على شواطئ الريفيرا أو في فنادق مرمريس ..

كدتُ أنسى، أقفلتُ صنبور المياه حقاً قبل خروجي من المنزل ؟ .. إي، لعل الملل الذي بدأ يتملك أوصالي الآن سيرغمني على مراجعة كل ما صادفني في حياتي منذ اقتحمتُها، وهذا زبون آخر قد أصابه الداء ذاته، فأخذ يحلل في أذن صديقه مباراة البارحة، وكذلك الحسناء في الصف المقابل، أخرجت مرآتها لتهذب شعيرات أرهقها تكلّف التنبه لذلك المتمترس خلف منبر المتحمسين

"سأقوم بإجراء مكالمة"، حجة العامة والخاصة، أشهرتُها بقوة كي يفسحوا لي ممراً ضيقاً للفرار من سعة خطبته، التي لم أُحرز منها إلا بقدر ما أحرزه عجوز ريفي عليل السمع من حوار تلفزيوني حول الروتاري !

باتت النجاة قريبة، ومخرج الزوار يهلل للهارب الممتعض، فإذا برصاصة كلامية تخترق أذني وعزيمتي "أرضنا لنا والخير فيها لمن أكرمها، فلنتكاتف لزيادة رقعتها الخضراء ولتسريع عجلة الإنتاج الزراعي"، هل سعى ذو الكرفات العريضة لمنعي من الأفول بندائه؟ هل كانت

محض مصادفة أن يصيبني في مقتل ؟

كيف حدث ؟ .. وجدتني متصلبا أمام المنصة التي على متنها يقف، وأرفع ساعدي مستسلما لمن سيهيج نحوي لإبعادي ..

معلمنا، أهي لنا حقيقة أم أنها مجرد دعابة لفظية ؟

كيف تريد لي أن أُكرم أرضاً خيرها صاعد لمن فوقي وقحطها هابط لأولادي ؟

أما تدري أن زيادة رقعتها الخضراء تعني انفراجاً في بورصة نيويورك وانسداداً في ذمة رئيسي في العمل ؟

كل إنتاج أصله بذرة ومردوده لها، والبذور البيضاء تُباع في سوق سوداء تجارها صُفر، والتجارة لهم ربح ولنا ما دون الخسارة، وما سقط من بين أنيابهم عمداً، تداعت إليه قصداً "عقال" القائمين عليها بل القاعدين علينا في بلادي ..

معلمنا، تستوردون من توجيهاتهم الاقتصادية كلمة صماء، نزرعها دونما فقه لتركيبها، فنحصدها قصيدة مهزوزة البناء مسحوقة القواعد، أحدهم يلحنها وجاره يدندنها، وثالث ترقصون سيادتكم على وجهه وعنقه وكرامته نشوة بالإنتاج الغزير، وحاصل جمع العملية هو تصدير أرصدة تكبر كما الزرع "المُهرمن" في بنوك لم أتشرف بنسب أحدها إلى الآن ولن يحدث ..

وإذا تكرم ذوو الأصول المختلطة أو اللاأصول، سمحوا لجهبذ غر من بطوننا أن يقيم بينهم بضع سنوات ليأتينا يوماً برأس كلب أو ذيل جرو، هناك حيث يلوك أحد صغارهم خطة تليق ببيوتنا وأشجارنا وأحلامنا ويلفظها في درب مبعوثنا المحنك، فيتعثر بها انتماؤه ويسقط مغشياً عليه، ومن ثم يعتري اعتقاده الديني ذبحة حادة، وتشكو ثقافته الأصيلة نزيفا غير منقطع، وعقب تلك النكسات يقفل عائدا إلى أبناء الحاجات المعرفية، محملاً بأوزار منطقه الأعور

سيدي، ما من صلة عصماء بيني وبين الأرض التي تقصد غير عهد لا ينبذه سوى صفعة كهربائية أو يدوية على يد أحد الأمناء المصلحين من رجالكم .. عهد بأن أداريها حياً وتحفظني جثة !

تبسم صاحب السلطة المنوّعة ابتسامة الذئب إذا لاحت له نعجة سمينة: لكلًّ رأيه، أخي المواطن ..

تقهقرت شجاعتي المباغتة عن فضول المحدقين من كل صوب، وعييت ألتمس مسلكاً يسلمني إلى وسادتي الدافئة وصوت مذياعي وضغط دمي المعتدل ..

طال ترقبي لكل كيس تداعبه الرياح، وبتُّ أحفل بكل مواء ونباح، مدة سيري إلى مستودعي

حين وصلت وعلى عتبة البيت استقبلَتني، بكل شموخ، وريقة لم أفرح بتهجئة لمثلها قبل قط

نعم، فلتحيا ديمقراطية التحقيق الحضاري "مُهاب، نعلم أنك في انتظارنا، ولن ننتظرك طويلا، فلتسارع إلى فرعنا كما الضوء"، ليت أمي كانت تعلم أن هذا الاسم لن يُهاب صاحبه ما دامت الفئران تعول القطط .. ضممت دعوتي وبكيت حتى ألفيتِني هنا في عناية مشددة بالحرس والذباب !

أنهى المهاب حديثه بسيجارة أشعلها كي يطفئ ما تبقى لديه من قدرة على مجابهة أوجاع المرض والذكرى .. ازددت ثقة بأن معاناته الآن تبدأ

وتساءلتُ في نفسي – وللحقيقة إعراب يختلف عن موضعها في جملة مغامراتنا -، إذا ما طُلب إلي أن أدشن رأياً أو أختتم مقالاً حول وضع جسده ورُشده وعروبته، فهل أحكم عليه بالجنون مدى الحياة، أم يحكمونه بالخيانة مدى الموت؟!



  • 1

   نشر في 14 فبراير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا