سأحكي لكم اليوم عن زميل درس معي في الجامعة..
زميلي هذا كان من فئة المثقفين المتصنعين، ينتمي إلى عينة من البشر تهوى تعقيد السهل، جمله مستعصية على الفهم.. طويلة.. مزدحمة.. لا نقاط فيها ولا فواصل، كان كلما تكلم تساءلت:
كيف يستطيع النوم مع كل هذا الكم من التعقيد، والمفردات التي تخاصم بعضها؟!
أين تختبئ ذاته الحقيقية، وسط كل هاته التضاريس الوعرة.. والجو الصحراوي؟!
الغريب أن الطلبة كانوا يصفقون له كلما أخذ الكلمة في التجمعات الطلابية وهم يهزون رؤوسهم في انبهار.. مثقف فذ!!
وحتى لا أوصف بالجهل، كنت أصفق له في غباء وأنا أهز رأسي تأسيا بزملائي!
زميلي المتصنع جدا كان إذا خير بين أمرين، اختار أعقدهما.. وإذا تكلم انتقى أصعب الألفاظ، وأراهنك أنك ستفضل الهروب من أمامه حين يستعمل قاموسه الابستميولوجي المستعصي على الفهم! ولكنك قد تكون جبانا مثلي.. ولا تفعل!
كانت له بعض الكتابات لا أذكر حرفا منها، ولكني أتذكر أنها كانت تصيبني بالدوار والغثيان والرغبة في الهرولة! وكنت أحس أنه ينتشي حين نعجز عن فهمه نحن الغوغاء.. الدهماء.. العوام.. الغارقون في أوحال السطحية.. اللامرتقون!
بعد كل محاضرة كنت أدعو الله ألا يطرح أسئلته المعقدة، التعجيزية التي يستعمل فيها قاموسه الحصري، حتى لا تنحرف بوصلتي.. وتضيع مني كل الأبجديات التي تعلمت! فكان كلما ألقى سؤالا فغرت فمي فيه كالبلهاء والتفت إلى صديقتي: هل ما يتكلم عنه هذا المخلوق درسناه الآن؟!
يهيأ لي أنه كان يتكلم عقب المحاضرات خصيصا ليظهر لنا حجم سطحيتنا! وقد كان ينجح كثيرا في جعلي شخصيا أحس كم أنا غبية! خصوصا حين يهز الأستاذ رأسه، ولسان حال المسكين يقول:” فين السؤال ؟!!" على طريقة سعيد صالح في مدرسة المشاغبين.
تذكرت زميلي هذا الآن، وأنا أقرأ ديوان شعر أبياته شبيهة بالكلمات المتقاطعة، نوع من النصوص الميتة.. التي لا تعترف بالقارئ على رأي محمود درويش!
والحقيقة أن بعض كتابنا ومثقفينا تحس حين القراءة لهم أنه لا يعنيهم البتة إقامة علاقة معك كقارئ، يجثمون على قلبك بلغة ثقيلة تتقاطر منها الدهون، وعوض أن تصير القراءة لك لحظة متعة، وجمال وتحليق.. تصير قطعة من العذاب! ثم يشتكون بعد ذلك أن لا أحد يقرأ لهم!
يسبغون على أنفسهم ثوب العبقرية.. والعمق، ويتهمون القارئ بالجهل والسطحية!
ليس هناك ما هو أجمل من البساطة.. ومد الجسور!
أكره التصنع بكل أنواعه، والعمق الزائف.. والتعقيد المقصود الذي لا يفهم إلا نفسه، إن في الفنون أو العلوم أو الأشخاص..
هناك كتاب تحس وأنت تقرأ لهم، أنك مأخوذ ببساطتهم.. تشتاق إليهم كأنهم بعض أهلك.. يكلمونك دون تكلف كأصدقاء قدامى، لا تحتاج لوضع نظارة المثقف وأنت تقرأ لهم.. هم سيعفونك!
يتجسد لك الكاتب أو الشاعر من هؤلاء عبر الأسطر.. بسيطا.. واضحا.. تلقائيا، لن تدوخ السبع دوخات لفهم جمله!
لن تحلل، ستندمج.. ستصير هو ويصير أنت.. ستنجذب إلى عالمه كطفل.. وستتشبث في عنقه حتى آخر حرف.. ستحزن حين ينتهي الحكي!! لقد صار جزءا من عالمك!
البساطة أن تكون أنت!
أن تسمح لي صديقي المثقف برؤية وجهك عاريا من الأصباغ والأقنعة!
أن تكلمني كقارئ ونحن نجلس جنبا إلى جنب.. وأن أنسى الزمن في حضرة أحرفك!
أن أعود من غوصي فيك خفيف الروح.. مثقلا بأماني العودة!
أن أشرب جملك مع قهوتي- وليس مع قاموسي- في استمتاع وحب!
أن أجد فيما كتبت ما عجزت أنا عن التعبير عنه.. ونجحت أنت!
أختم لكم بنصيحة للكاتب الذي تفوق في فن البساطة والجمال، أحمد خالد توفيق، يقول فيها:
عندما تقابل شخصا يقول لك:" إن هذه الأنطولوجيا التي كتبها فلان تنبعث من رؤية بانورامية للمدينة الكوزموبوليتانية..برغم ما فيها من شوفينية واضحة وما يتميز به الكاتب من ديماجوجية،فإنها يمكن أن تكون هرمينوطيقا متكاملة تمتاز بالكثير من الأبستمولوجيا..."
عندما تقابل هذا الشخص فعليك أن تفر منه فرارك من الأسد.. أنت بلا فخر في حضرة شخص متحذلق لا يمكن التعامل معه أبدا.. أنت في مأزق حقيقي.
تصبحون على بساطة.. وجمال!
فوزية لهلال
التعليقات
هم ليسوا بمثقفين ولا بأدباء ولا بعلماء ولكن يحاولون الظهور بمظهر المثقفين أو الأدباء أو العلماء عن طريق استخدام بعض المصطلحات ظناً منهم أنهم سيؤثرون على المتلقي ويأسرونه ويخدعونه، علماً بأن أعظم النصوص تُكتب بأبسط الكلمات، لذلك نجدنا لا نذكر سطراً واحداً من كلامهم.
كنت قد علقت على موضوع سابق بالتعليق التالي والذي أجد أنه من المناسب إعادة ذكره هنا،
"فيما يتعلق بالنصوص، فكنت أقول دائما أن مبدأها من القلوب وليس من الحروف، فالحروف ماهي الا وسيلة لترجمة هذا الذي خرج من القلب، فما خرج من القلب سيصل إليه بغض النظر عن التراكيب المستخدمة، ودليلي في ذلك أن كلمة واحدة منقوصة الحروف من طفل صغير كفيلة بأن تأسر قلبك وتحرك مشاعرك، ذلك لأنها خرجت من قلب."
شكرا على الموضوع الجميل
مع التحية
احسنتي احسنتي احسنتي.
حقا مقالاتك من خلالها (يتجسد لنا الكاتب أو الشاعر . بسيطا.. واضحا.. تلقائيا، لن ندوخ السبع دوخات لفهم جمله!)..
أتفق معك في تلك الفقرة بشدة (لن تحلل، ستندمج.. ستصير هو ويصير أنت.. ستنجذب إلى عالمه كطفل.. وستتشبث في عنقه حتى آخر حرف.. ستحزن حين ينتهي الحكي!! لقد صار جزءا من عالمك!) ولقد كان
انتى البساطة في الكلام و الايجاز في الفكر . حقا لقد سررت جدا بقراءة هذا المقال الرائع لكى بعد غياب طويل...
سعيدة جدا بعودتك الى المنصة اتمنى ان تكوني دائما هنا بحروفك وكلماتكِ فنحن أصبحنا قُرائكِ .
موفقة.
ما أجمل الإنسيابية في عرض المقال وتحرير النصوص. لا فُض قلمك أبدا.
ذات يوم قرأت لصاحب النبوءة "د. أحمد خالد توفيق"
مقولته الشهيرة
أنا و زوجتي عشنا سعداء خمسًا وعشرين سنة.. »
- « ثم .. ؟! »
- « ثم التقينا !! »
قد يصاغ هذا المعنى في مجلدات إلا أن بساطة كاتبه أوصلت المعنى بمجرد ذكره.
دام قلمك نابضا، ولا حرمنا الله من انسيابيتك الملهمة
المثل يقول " في البساطة يكمن الجمال "
"There is beauty in simplicity "
أما عن المثقفين المدعين، الذين يرصون بعضا مما كسبت عقولهم من مفردات ليستعرضوا عضلاتهم الفكرية، فهؤلاء لا خلاق لهم في محبة القارئ.. ونسأل الله أن لا يجعلنا في زمرتهم.
دمت مبدعة عزيزتي.
هذا هو شعوري وأنا أقرأ مقالك، فحين قراءتي له وأمثاله أحمد ربي على القراءة التي تُنير العقول، وتريح النفس؛ نظرًا لمشاركة المشاعر، فمشاعري هي مشاعرك ذاتها إلا أنك ترجمتيها في كلمات رائعة، وبلغة رصينة ماتعة، ما ألذ هذه اللحظات وما أجملها
بالنسبة للفئة التي ذكرتيهم من وجهة نظري أرى أنهم أحيانًا لا يفهمون أنفسهم أصلًا! هي مجرد محاولة لتغنّي بالكلمات المُعقدة؛ محاولةً للفت الأنظار .
أحسنتِ وأجدتِ أستاذتنا فوزية، كل التوفيق لكِ
مقاال راائع كعادتك.