حكاية سورية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حكاية سورية

  نشر في 02 مارس 2018 .

قابلته في مطار برشلونة الاسبانية، كان كهلاً سوريّاً حليق الذقن، قد ارتدى بذلة رمادية أنيقة، قد اختفت من تحتها ربطة العنق.

قال أنه سيطير إلى استانبول في رحلة ترانزيت في طريقه إلى القاهرة، فأبديتُ شوقي لقاهرة المُعزّ، وسرعان ما انتابته الغيرة الطفولية، فبدأ يتغزل بدمشق، وأهل دمشق، وحواري دمشق، فقلتُ بحُسن نيّة أنّنا لا نستحق مدينة رائعة كتلك، فانبرى وهو يشعر بأنني قد أخالفه الرأي.

ومخالفة الرأي في العقل العربي هي مرادف للحرب والعداوة والمبارزة، وهي فرصة لزيادة الغيّ والمبالغة والاستعانة بكل الحجج والأكاذيب لرفد الرأي.

انبرى مُجالسي يُبارز فكرتي قبل أن اُكملها، وبدأ بالترنم بأمجاد السوريين، مُتجاهلاً أنني منهم ، وبدأ يجزم أن أفضل أطباء العالم هم سوريون، وأن ألمع عقول الناسا هم عقول سورية ، وأن أعذب شعر قيل من قبل سوريون أو لهم، وأن نساء الشام هم الأجمل والأكثر أدباً والأجمل أخلاقاً والأعف و الأكثر إثارة.

تحدّث عن أرض الشام التي باركها الله وعدّد الأنبياء الذين صالوا وجالوا فيها.

أسهب عن تجارة حلب وخضرة الغوطة وجمال الساحل وعذب هواء الجبل.

كنتُ كعادتي مُستمعاً جيداً فأغراه الأمر، وبدأ يتهكم عليّ ، كوني ممن غربتهم الأيام فغرّتهم الغربة وبهرتهم أوربا بحضارتها الكاذبة وبإعلامها الضخم وبحريتها المصطنعة.

في برشلونة، في مطار برشلونة، تقابلتُ مع كهلٍ بدأ يستحلّ شتمي لأنّني قلتُ شيئاً لم يرق له، فزدتُ بعناد متوارث:

لو فعلاً كنا بذلك النُبل الذي تصف، ولو كنا بذلك الإحترام للقانون والدين والعرف والأخلاق كما تصف، فلمَ تحترق بلدنا من سبع سنين دون توقف؟ لمَ بتنا لاجئين في كل أقطار الأرض كما ترى؟

لمَ كان منّا المُخبر والارهابي والقاتل والسارق؟

لمَ مادمنا خير أهل الأرض كما تلمّح، لم نجد طريقة عيش تجمعنا. فلا مناطق الحكومة مستقرة، ولا مناطق المعارضة مستقرة، رغم اعترافي بأفضلية ما تحكمه الدولة بالحديد والنار، عن تلك التي عاث فيها مرتزقة العصور الوسطى خراباً.

لمَ عندما يُقتل أحد المعارضين يكون قاتله سوري، وعندما يُقتل أحد المسؤولين يكون أيضاً القاتل سورياً؟

لمَ لا ننتمي لهذه الأرض المباركة التي وصفتها؟ فترانا نتوزع الانتماء لأشخاص وفصائل وطوائف؟

أتنكر أن من بقي على الأرض السورية يتّهم من لجأ للخارج بأنه جبان خان الوطن؟ وأن من لجأ يعتبر أن من بقي قد فرّط بكرامته ورضي الذل والاستكانة؟

أتنكر أن السوريون الذين تحكمهم الحكومة يعتبرون أن من يعيش في المناطق الأخرى إرهابيين، و في أحسن الأحوال بيئة حاضنة للإرهاب؟

وأنّ من تخلص من حكم الدولة يعتبرون من بقي تحت سلطتها بأنهم شبيحة وقتلة ومجرمين؟

لمَ ما دمنا خير عقول الأرض لا نتقبل وجود الآخر ولا حتى فكره؟

لن تشتمني أنت فقط لقولي هذا الكلام، بل سيشتمني كل من ستنقله له، لأننا ما اعتدنا مواجهة الخطأ، فقد علّمنا علماء الدين أن وليّ الأمر هو ظلّ الله على الأرض، وعندما بدأت الدولارات تأتي، بدأوا بشتمه، وعندما حصحص الحق، جمعوا ما استطاعوا حمله وطاروا ليعتكفوا في بلاد الله الواسعة بعد أن أسلموا البلاد للخراب.

لقد علمتنا الحكومة أن الانتماء ليس للأرض، بل للحاكم، وأنه لا قيمة لأرض لا يحكمها الحاكم بأمره.

علمتنا أعرافنا أن كلّ ما خفي عن أعين الناس مُباح، وأن الحرام يتعلق بعدد من يراك تفعله.

علمتنا الحرب أن لحظة سعادتنا هي لحظة سقوط الصاروخ على بيت جيراننا وليس على بيتنا.

وأن راحتنا حين نعرف أن الانفجار قتل جارنا وليس أحد أبنائنا.

تعلمنا كلّ شيء ولم نتعلم بعد مواجهة الحقيقة ودراسة أخطائنا كي لا نكررها.

دعونا نتعلم أن كلّ ابن آدم خطّاء، وأن هذه القاعدة لا تتجاوزنا علّنا نصنع أيّاماً أفضل لصغارنا.

تململ منّي جليسي وتركني وهو يلعن العقل الذي يشقي صاحبه.


  • 3

   نشر في 02 مارس 2018 .

التعليقات

" منذ 6 سنة
ومخالفة الرأي في العقل العربي هي مرادف للحرب والعداوة والمبارزة، وهي فرصة لزيادة الغيّ والمبالغة والاستعانة بكل الحجج والأكاذيب لرفد الرأي.
وضعت يدك على الداء سيدي الكريم،الحقيقة ـــحقيقتناـــصادمة وللأسف.ونحتاج المواجهة والكف عن التغني بماضينا المجيد،بمناسبة وبغير مناسبة،علنا نستفيق ..أبدعت
2
Nafez Samman
لا أعتقد أنه علينا الكف عن التغني بالأمجاد، بل علينا العمل على رفدها وتحديثها، شكرا لمداخلتك، بارك الله بك
"
والله إنا نفعلها بمناسبة وبغير مناسبة..فركنا إليها ووقفنا محلك سر،لقد نسبوا علوم علمائنا إلى علمائهم في جحود كبير،وقاموا بتحديثها فسبقونا بعشرات السنين..والله لقد فوجئت حين أتيت بحجم التطور في المستشفيات في الوقت الذي لا زلنا فيه نستعمل أدوات بدائية،واكتشفت أنهم لم يدرسونا ولكن ضحكوا علينا بمراجع مهترئة ترجع لأيام الإستعمار إمعانا في إذلال العقول.التغيير هنا والآن..لا وقت للتغني هو وقت العمل.
أشكرك مرة ثانية على قلمك الجميل..راقني جدا بعض ما قرأت لك
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
صريح حد الالم ،هي الحقيقة بدون تجميل ،طغت الانانية حتى افقدتنا انسانيتنا والقيم المثلى التي نشأنا عليها ،وصار اقل الناس ادبا واعلاهم صوتا هو القوي الذي يخشى ونصعد السلم درجا درجا حتى نصل الى حاكم لا يرى مستحقا لكرسي الحكم سواه ،ليس لوطنيته ولكن لان الحظ حالفه وصار الحاكم بنسبة فوز لا نراها الا في البلدان العربية ،سوريا واليمن والعراق و فلسطين تعيش الحرب ،و باقي البلدان تعيش الفساد ،واقع مؤسف اتعمد احيانا ان اتناساه لانه فعلا لا يطاق ،نسأل الله ان تتغير الاحوال،سررت جدا بقراءة مقالك سيدي الكريم ،دام قلمك.
1
Nafez Samman
بداية شكراً لطيب القراءة، وثانياً مؤمن أنا بأن أولخطوة صحيحة نحو العلاج هي معرفة المرض ومواجهته دون مواربة وهو الأمر الذي نفرّ منه لأسباب عدّة. بورك بك وشكراً مرة أخرى

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا