أحزان حي بن يقظان
(مرة أخرى)
بما أننا في العام الثالث (ب.ك) عبرت ذاكرتي قصة حي بن يقظان لابن الطفيل , حيث كتبت عنها في مرحلة المراهقة خاطرة قصصية نبعت من قصة حب عابرة بين شاب وفتاة عاشا في حارة من حارات مكة الجبلية , وإذا بالفتاة ترحل لجدة , وكانت جدة وقتها لساكن حارة في جبل بمكة أشبه بباريس اليوم , كان يتخيلها مدينة تعج بالبشر والزحام والأضواء والسيارات والمتاجر والعمائر , وظل هذا الشاب ينتظر رجوعها كل يوم , ولكنها لم تعد , وابتلعتها أضواء المدينة وأبراجها , قبل ما يقارب 45سنة مازال هذا النص بين اوراقي كما هو , ولكن ما علاقة حي بن يقظان بمقالتي هنا ؟
ربما تلك القصة تأخذنا لزمن مغاير لعالم ما بعد كرونا , وما يهمنا فيها هي العلاقة بين الإنسان والطبيعة , والعلاقة بين الإنسان المفكر والذي ينطلق بأفكاره من فطرته ونظرته للكون دون تدخلات خارجية , وكذلك تدرجه المعرفي الفطري بدءا من روحه وحتى الفضاء الخارجي , حي بن يقظان رمز فلسفي لتاريخ لما (ق.ك) , حيث تعامل الإنسان مع أدواته البدائية (العقل-النظر-السمع-الشم-التذوق-اللمس) , ليبني علاقته ونظرته للكون وما يحيط به , لم يكن للتقنية والسليكون والنانو دورا في ذلك , لم يكن يهتم حي بن يقظان بمشاكله الشخصية مع الآخرين , لم يكن يعنيه المال والمكانة والسلطة والرفاهية والعلاقات المختلفة , لم يكن يخطط للغد كي يصبح قائدا أو مليارديرا أو صاحب أبراج ويخوت , لم يكن يعنيه أن يخطط لإيذاء أحد أو قتل شخص أو ربما قتل وتشريد الملايين وهدم المدن , كان يبحث عن السلام بين روحه وربه والطبيعة التي ينتمي إليها , ينتقل بين الفلسفة والدين والعقل والطبيعة بكل حب وهدوء وتناغم .
ربما لو كان حي بن يقظان مازال في جزيرته تلك لليوم غارقا في تأمله الفلسفي والديني والعقلي في احضان طبيعته البكر , للاحظ ازدحام الفضاء البكر الذي كان يعرفه بعشرات الألوف من الأقمار الصناعية , وربما صورته وهو في أدق لحظاته خصوصية وصار العالم كله يتفرج عليه , وربما اخترق سمعه الهادئ عشرات الأصوات المزعجة والانفجارات النووية التي لن يعرف مصدرها , وربما شعر بوخزة عبر جلده لأن روبوتا نانويا اخترق جسده , أو ربما شعر بحمى جراء فيروس معدل وراثيا تسلل إليه عبر جهاز لم يراه من قبل .
والسؤال هنا : هل ثمة مكان اليوم وما بعد (ب.ك) للفلسفات الأخلاقية والدينية والفكرية , أم تنحصر اهتمامات البشر بما يُعد لهم من فيروسات ولقاحات ومحاولات امتلاك عقولهم وقراراتهم وحتى رغبتهم في التناسل والتكاثر , هل سيتم تغيير نمط حياتهم واستهلاكهم وعواطفهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وحتى عقولهم ؟
ربما هي نظرة مبالغ فيها , ولكنها ممكنة في ظل كل هذا اللغط الذي نشهده ولم نعرف حقيقة مآله .
هل من حقنا أن نحاول أن نتخيل الحياة الاجتماعية للبشر في مستقبل (ب.ك) .
من المؤكد أنا لا أعني هنا في القريب المنظور , ربما بعد عقود كما أشرت (لتأثير الفراشة) , وهو هنا تأثير اجتماعي اقتصادي علمي فلسفي قبل أن يكون فيزيائي .
ظهور المدن التقنية مستقبلا والتي تكون قائمة على النظام والتقنية والقانون الصارم , حيث لا مكان للتعاطف والتراحم واحترام الخصوصية , هناك حيث يكون التأمل والسكينة مجرد ذكرى تاريخية مرت على البشر ذات وقت .
ماذا لو حاولنا تخيل تنامي الهجرة من القرية للمدن التقنية الحديثة , هل سيحمل أحفاد حي بن يقظان كل تلك التركة من أخلاقيات القرية وافرازاتها الاجتماعية والدينية والبيئية نحو تلك المدن الكريستالية النانوية ؟
كيف سيشق أبناء القرى والمدن الصغيرة طريقا لحياتهم في ظل تلك المدن القاسية التي لا تحترم إلا أصحاب الأرصدة أو المستعدون لدفع أي ثمن لتقبلهم تلك المدن ؟
هل سيستطيع ملايين الشباب والشابات تجاهل الحياة التقنية والمانحة لأقصى درجات الحرية والرفاهية لمن يطلبها ويكون مستعدا لدفع الثمن ؟
لا شك أن تلك العقول الشابة ستظل أبدا مأسورة للنداء الناري الذي يخضعون له عقلا وعاطفة ورغبة والذي يقتحم عليهم كل أوقاتهم عبر أصغر جهاز للتواصل , ويفكرون ليل نهار بشد الرحال لمدن الكريستال , ولكن ماذا لو كانت تذكرة العبور قاتلة لكل جميل تعودوا عليه , هل سيتم دفع تلك الرسوم من أخلاقهم ودينهم وكرامتهم وعرضهم ربما , هل سيقبلون حذاء الغريب وهم على أرضهم ليمنحهم مكانا هناك ؟
ماذا لو كان الخيار يتأرجح بين الجلوس بجوار حي بن يقظان مع التمسك بالعلاقة الفطرية بينهم وبين الأخلاق والخالق والبيئة والمجتمع البسيط , أو الجلوس بين قدمي الغريب والتخلي عن رداء العفة والأخلاق والانتماء الاجتماعي ؟
سيقال أن الجمع بينهما ليس مستحيلا , ربما , ولكنه سيكون نادرا جدا وستحاربه مدن الكريستال حتى تسحقه أو تبتلعه في احشائها .
-
adelmolehhttp://adelansare6.blogspot.com/
التعليقات
تفتح ابواب لتساؤلات كثيرة.
مقال رائع يعبر عن واقع الحال وأفكار ربما خطرت على بال الكثير منا ولكنها بقيت علامات استفهام دون اجابات مقنعة.
تحياتي لك.