أحزان حي بن يقظان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أحزان حي بن يقظان

أحزان حي بن يقظان

  نشر في 28 يونيو 2021 .

أحزان حي بن يقظان

(مرة أخرى)

بما أننا في العام الثالث (ب.ك) عبرت ذاكرتي قصة حي بن يقظان لابن الطفيل , حيث كتبت عنها في مرحلة المراهقة خاطرة قصصية نبعت من قصة حب عابرة بين شاب وفتاة عاشا في حارة من حارات مكة الجبلية , وإذا بالفتاة ترحل لجدة , وكانت جدة وقتها لساكن حارة في جبل بمكة أشبه بباريس اليوم , كان يتخيلها مدينة تعج بالبشر والزحام والأضواء والسيارات والمتاجر والعمائر , وظل هذا الشاب ينتظر رجوعها كل يوم , ولكنها لم تعد , وابتلعتها أضواء المدينة وأبراجها , قبل ما يقارب 45سنة مازال هذا النص بين اوراقي كما هو , ولكن ما علاقة حي بن يقظان بمقالتي هنا ؟

ربما تلك القصة تأخذنا لزمن مغاير لعالم ما بعد كرونا , وما يهمنا فيها هي العلاقة بين الإنسان والطبيعة , والعلاقة بين الإنسان المفكر والذي ينطلق بأفكاره من فطرته ونظرته للكون دون تدخلات خارجية , وكذلك تدرجه المعرفي الفطري بدءا من روحه وحتى الفضاء الخارجي , حي بن يقظان رمز فلسفي لتاريخ لما (ق.ك) , حيث تعامل الإنسان مع أدواته البدائية (العقل-النظر-السمع-الشم-التذوق-اللمس) , ليبني علاقته ونظرته للكون وما يحيط به , لم يكن للتقنية والسليكون والنانو دورا في ذلك , لم يكن يهتم حي بن يقظان بمشاكله الشخصية مع الآخرين , لم يكن يعنيه المال والمكانة والسلطة والرفاهية والعلاقات المختلفة , لم يكن يخطط للغد كي يصبح قائدا أو مليارديرا أو صاحب أبراج ويخوت , لم يكن يعنيه أن يخطط لإيذاء أحد أو قتل شخص أو ربما قتل وتشريد الملايين وهدم المدن , كان يبحث عن السلام بين روحه وربه والطبيعة التي ينتمي إليها , ينتقل بين الفلسفة والدين والعقل والطبيعة بكل حب وهدوء وتناغم .

ربما لو كان حي بن يقظان مازال في جزيرته تلك لليوم غارقا في تأمله الفلسفي والديني والعقلي في احضان طبيعته البكر , للاحظ ازدحام الفضاء البكر الذي كان يعرفه بعشرات الألوف من الأقمار الصناعية , وربما صورته وهو في أدق لحظاته خصوصية وصار العالم كله يتفرج عليه , وربما اخترق سمعه الهادئ عشرات الأصوات المزعجة والانفجارات النووية التي لن يعرف مصدرها , وربما شعر بوخزة عبر جلده لأن روبوتا نانويا اخترق جسده , أو ربما شعر بحمى جراء فيروس معدل وراثيا تسلل إليه عبر جهاز لم يراه من قبل .

والسؤال هنا : هل ثمة مكان اليوم وما بعد (ب.ك) للفلسفات الأخلاقية والدينية والفكرية , أم تنحصر اهتمامات البشر بما يُعد لهم من فيروسات ولقاحات ومحاولات امتلاك عقولهم وقراراتهم وحتى رغبتهم في التناسل والتكاثر , هل سيتم تغيير نمط حياتهم واستهلاكهم وعواطفهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وحتى عقولهم ؟

ربما هي نظرة مبالغ فيها , ولكنها ممكنة في ظل كل هذا اللغط الذي نشهده ولم نعرف حقيقة مآله .

هل من حقنا أن نحاول أن نتخيل الحياة الاجتماعية للبشر في مستقبل (ب.ك) .

من المؤكد أنا لا أعني هنا في القريب المنظور , ربما بعد عقود كما أشرت (لتأثير الفراشة) , وهو هنا تأثير اجتماعي اقتصادي علمي فلسفي قبل أن يكون فيزيائي .

ظهور المدن التقنية مستقبلا والتي تكون قائمة على النظام والتقنية والقانون الصارم , حيث لا مكان للتعاطف والتراحم واحترام الخصوصية , هناك حيث يكون التأمل والسكينة مجرد ذكرى تاريخية مرت على البشر ذات وقت .

ماذا لو حاولنا تخيل تنامي الهجرة من القرية للمدن التقنية الحديثة , هل سيحمل أحفاد حي بن يقظان كل تلك التركة من أخلاقيات القرية وافرازاتها الاجتماعية والدينية والبيئية نحو تلك المدن الكريستالية النانوية ؟

كيف سيشق أبناء القرى والمدن الصغيرة طريقا لحياتهم في ظل تلك المدن القاسية التي لا تحترم إلا أصحاب الأرصدة أو المستعدون لدفع أي ثمن لتقبلهم تلك المدن ؟

هل سيستطيع ملايين الشباب والشابات تجاهل الحياة التقنية والمانحة لأقصى درجات الحرية والرفاهية لمن يطلبها ويكون مستعدا لدفع الثمن ؟

لا شك أن تلك العقول الشابة ستظل أبدا مأسورة للنداء الناري الذي يخضعون له عقلا وعاطفة ورغبة والذي يقتحم عليهم كل أوقاتهم عبر أصغر جهاز للتواصل , ويفكرون ليل نهار بشد الرحال لمدن الكريستال , ولكن ماذا لو كانت تذكرة العبور قاتلة لكل جميل تعودوا عليه , هل سيتم دفع تلك الرسوم من أخلاقهم ودينهم وكرامتهم وعرضهم ربما , هل سيقبلون حذاء الغريب وهم على أرضهم ليمنحهم مكانا هناك ؟

ماذا لو كان الخيار يتأرجح بين الجلوس بجوار حي بن يقظان مع التمسك بالعلاقة الفطرية بينهم وبين الأخلاق والخالق والبيئة والمجتمع البسيط , أو الجلوس بين قدمي الغريب والتخلي عن رداء العفة والأخلاق والانتماء الاجتماعي ؟

سيقال أن الجمع بينهما ليس مستحيلا , ربما , ولكنه سيكون نادرا جدا وستحاربه مدن الكريستال حتى تسحقه أو تبتلعه في احشائها . 


  • 1

   نشر في 28 يونيو 2021 .

التعليقات

Fatma Alnoaimi منذ 3 سنة
ماذا لو؟
تفتح ابواب لتساؤلات كثيرة.

مقال رائع يعبر عن واقع الحال وأفكار ربما خطرت على بال الكثير منا ولكنها بقيت علامات استفهام دون اجابات مقنعة.
تحياتي لك.

0
adelmoleh
مرورك فاطمة يبهجني كثيرا ,, كوني بخير

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا