• كان الإنسان ولم يزل يميل إلى التواصل ، فاتصل أولاً بطبيعته ، وحاول استكشافها ، ليحصل منها عما قد يسد رمقه ، أو يستر جسده ، أو يقيه من بردها القارس ، ويحجب عنه حرارتها الحارقة ، ثم أدرك أن العيش فى جماعات ، قد يساعده فى الحصول على احتياجاته بطريقة أيسر من العيش فى عزلة ، فتكونت القبائل ، وتواصلت القبائل ، فنشأت الشعوب ، وبدأت تنتظم حركة الحياة فى أطر محددة .
• غير أن زيادة عدد الأفراد ، يطرد مع عدد الحاجات والأفكار والأهداف ، نظراً لتعدد الرؤى واختلاف الأفهام والثقافات ، ورغم أن هذا يخلق نوعاً من الزخم المطلوب لتحقيق التنوع الذى يسهم فى إستمرارية الحياة ، إلا أنه وفى الوقت ذاته ، قد يخلق أجواءاً من القلق والتوتر ، إذا ما انتفت وجود أرضية مشتركة بين الأفراد ، واختلفت الأهداف ، وطرق تنفيذها ، وتباينت الخطط ، والنظرة إلى الواقع المعاش ، فهنا قد يضطر الفرد للتعايش مع الآخرين على طريقتهم ، مما قد يحرمه من التعبير عن احتياجاته الشخصية ، فيصير قالباً من القوالب ، أو أنه قد يضرب القطيعة معهم ، فيكتوى بنار الوحدة والعزلة ويخرج من نسيج الجماعة .
• وإن كان الأصل فى حياة الفرد هو اختلاطه بالآخرين ، إلا أن الأمر لا يستوى دون وجود العزلة المقيدة أو المشروطة ، فالفرد لابد وأن يخلو بنفسه ، يقيم معها الأحاديث ، يراجع ترتيب أموره الحياتية ، يبحث فى الأهداف ، ويضع الخطط ، ويبنى الإستيراتيجيات وفق الإمكانيات المتاحة ، ثم ينظر فى أمر الجماعة التى تحيطه ، هل ستوفر له المدد والعون فى التعبير عن نفسه ، وتحقيق ميوله واحتياجاته ، أم أنها ستكون حجر عثرة بينه وبين طموحاته ، وهل من الأفضل أن يترك تلك الجماعة ليختلط بأخرى ، أم أنه قد يستطيع أن يساير الركب ، حتى يصل لنقطة بداية ، وبخاصة إن لم تكن بدائل التنقل بين الجماعات متاحة .
• هذه العزلة ، والتى هى طارئة على أصل الإختلاط مشروطة بمراجعة الحسابات ، وجدولة الأعمال والترتيبات ، ومعالجة المستجدات ، وليست للهروب أو التخلى عن ممارسة الإنسان لأنشطته الجماعية اللازمة لوجوده ، وإنما قد تكون أيضاً لإعتزال الممارسات السلبية من الجماعة المحيطة والتى قد تعيق من تقدم الفرد ، وربما اعتزال جماعة بعينها والإنتقال-إن أمكن- لجماعة أخرى ، قد تزيد من فرص التواصل الحقيقى ، وتدفع الفرد للأمام .
• على أنه وفى بعض الأجواء المشحونة بالسلبيات والمعوقات ، على الفرد أن يكون له دوراً إيجابياً فى أمور النصح والإرشاد ، والتوجيه إلى جادة الطريق ، فإن باءت كل هذه المحاولات بالفشل ، وانقطعت كل السبل ، فعلى الإنسان أن يعتزل تلك السلبيات ، أو ينتقل لجماعة أخرى ، حتى لا تنتهى مشاريعه ، ويصيبه اليأس والإحباط ، فيرتد على عقبه ، دون أى تقدم يذكر .
• وملاك الأمر أن يستطيع الإنسان أن يصل إلى حالة من التوازن بين اختلاطه بالناس ، وبين العزلة عنهم ، فلا ينقطع عنهم ، ولا يصبح فرداً من القطيع ، فلا إفراط ولا تفريط ، فلا يختلط بالفاسدين ، ويكون إعتزاله مؤقتاً بهدف البحث عن الصالحين .