حُب الذات نهايته الفناء - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حُب الذات نهايته الفناء

بقلم/محمود حافظ

  نشر في 20 فبراير 2019 .

قال “لقمان” الحكيم : “من عجب بنفسه هلك”

“نركسوس” أو “نرسيس” أو “نرجس” فى الأساطير اليونانية كان “نركسوس” صياداً من “بيوتيا” و هى إحدى مقاطعات اليونان تضم عدة مدن منها ليفاذيا ومدينة خايرونيا التاريخية ومدينة ثيفا ، و “نركسوس” هذا وهبته الأله حُسناً وجمالاً لا يقاوم، لم يره إنسان أو إله دون أن يعجب بجماله واشتهر بذلك ، كان إبناً لإله “كيفيسيوس” والحورية “ليريوبى” أو “فرسة النهر” ، وكان “نركسوس” هذا مغرورًا شديد الزهو بنفسه و بوسامته، و مدركاً لجماله وإطلالته الجذابة وفخورًا بنفسه لدرجة تجاهله وإعراضه عن كل من يحبه،لم يكن يعرف الحب و لم يكن يقيم للعواطف وزنًا، لكنه مع ذلك ظل محط أنظار الجميع ومركز إشعاع للسحر والفتنة.

وقعت فى حبه حوريه فاتنة رائعة الجمال تُدعى “إيكو” و باليونانية تُعنى صدى الصوت ،لكن لم يعيرها أدنى اهتمام وحطم قلبها حتى شعرت بالمهانة التي لحقت بها كأنثى ،أصبحت مثار غضب الآلهة وأصبحت مثار سخرية جميع أفراد البشر، لم تعد زميلاتها الحوريات يحضرن لزيارتها أو يرتضين مصاحبتها في نُزهاتهن،ذوى عودها النضر ،ذبل جمالها الأخاذ ،ووهن جسدها الممشوق ذاب هيكلها في الهواء، تناثرت رفاته بين موجات الأثير، أختفت “إيكو” بجسدها من الوجود،لكن لم يبق منها سوي صدى الصوت.. الصوت الذي يسمعه المتحدث مرددًا المقاطع الأخير لحديثه.

ازداد زهو “نركسوس” مع الأيام وازداد اعتداده بنفسه ،لاحظت الإلهة “نمسيس” وهى حارسة على اقدار الأشياء هذا العيب فيه فقررت أن تنتقم منه ، وذات مرة كان “نركسوس” يمارس هوايته المفضلة وهى الصيد أخذ يطارد فريسة ضالة ،قضي وقتاً طويلاً يعدو تحت أشعة الشمس الحارقة حتى تعبت قدماه اشتد به الظمأ، ساقته قدماه إلى بحيرة فى منطقة تغمرها الظلال أحس بالهواء الرطب يمسح وجهه، ويجفف عرقه فشرب حتى ارتوى كانت مياه البحيرة صافية وصفحتها الساكنة مثل مرآة لامعة و فيها رأى إنعكاس صورته ظن أنها حورية مائية ليست كباقى الحوريات وقعت فى حبه ، فوقع في حب نفسه دون أن يدرك بأنها مجرد صورة، أعجب بصورته لدرجة عجز فيها عن تركها ولم يعد يرغب بالعيش ،وبقي يحدق بصورته حتى ذبل عوده وذهب جماله وأصبح كسيرًا ذليلًا،لا تعرف الابتسامة طريقها إلى شفتيه فقضى عليه الحزن وفارق الحياة وهو يقول: -وداعاً..وداعاً.. يا من أُحب.. وداعاً ،فارق الحياة وهو يسمع صوتاً نسائياً عذباً يقول: -يامن أُحب وداعاً.. وكان هذا الصدى هو صدى صوت “إيكو”.

لم يكن الحُب الذى هام فيه “نركسوس” سوى عقاب من الأله “نمسيس”، لم تكن روح “إيكو” قد تخلصت من حبها لـ”نركسوس” ألقت عليه نظرة أخيره ثم انطلقت بعيدا عن المناطق الحضارية العامرة ،عاشت ومازالت تعيش حتى الآن صوتاً بلا جسد فى الأماكن الجبلية المقفرة،وهي تردد المقطع الأخيرة من عبارات المسافر أو عابر السبيل، أما “نركسوس” فقد أشفقت عليه الآلهة وأعادته إلى الحياة، مرة أخرى لكنه لم يعد بشرًا كما كان من قبل بل أصبح زهرة جميلة، مظهرها يعبر عن الحزن، تنمو على ضفاف البحيرات ووسط المروج الخضراء ،عاد “نركسوس” إلى الحياة في صورة زهرة مازالت حتى الآن تٌسمى “زهرة النرجس”.

و تمثل أسطورة “نركسوس” نمطًا من الأنماط البشرية الذي عاش وما يزال يعيش حتي الآن، وهو الشخص الذي يعجب بنفسه ويعتز بها لدرجة تنسيه إعجاب الآخرين به، وتنسيه أيضًا حبه وإعجابه بالأخرين، والذي يؤدي في النهاية إلي انسلاخ الشخص عن المجتمع الذي يعيش فيه ويكون نهايته حينئذ الموت أو الفناء.


  • 3

  • محمود حافظ
    حياتي هي مملكتي لن أجبر احد على دخولها أو الخروج منها، و لكن استطيع ان أجبر من يدخلها ان يحترم قوانينها
   نشر في 20 فبراير 2019 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 5 سنة
عنوان معبر ، و حكاية أسطورية مشوقة ، دام قلمك أستاذ محمود.
0
محمود حافظ
اشكرك جدا استاذه سلسبيل

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا