نشر في 18 يناير 2019 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
غالبا ما ينتابنا شعور بالحيرة أمام نظرات يرمقنا بها الآخرون. هي نظرات غريبة و عجيبة، تحملك أحيانا إلى أعلى ثم إلى أعلى لتجد نفسك أخيرا متربعا على عرش المثالية... أنت حينها ملاك، كل أفعالك و أقوالك و آرائك صحيحة بالإجماع... و في لحظة غفلة تكاد تصدق أنك حقا ملاك... و للأسف أحيانا تصدق ذلك... و يالخطورة الموقف حينها.
و أحيانا أخرى ترمقك نظرة من تلك النظرات الغريبة، العجيبة.. لكنها نظرة حقيرة، تهوي بك إلى أسفل سافلين، لتضعك في خانة الشر و القبح... أنت حينها شيطان مارد... تتقاتل لوقت طويل من أجل اقتلاع هذه البطاقة التي ألصقها الآخر على جبينك... و للأسف أحيانا تستسيلم لتصدق حقا أنك شيطان في صورة إنسان.
كنت جالسة يومها في المحطة، حين لفت انتباهي نقاش غريب... في الحقيقة لم تكن أول مرة أستمع فيها لهذا النوع من الكلام و لكن...طول انتظار الحافلة كفيل بفتح باب للتأمل...
" يا أختي... ما لا أستوعبه، إنسان يقول ما لا يفعل... تعرفين فلانة؟... حجاب طويل و صلاة و صيام و كلام فقط في الدين... و يوم احتجتها و اتصلت بها تعتذر بكونها ليست في البيت... و تأكد لي أنها في البيت مرارا... إن كانت غير قادرة على تطبيق الدين فلا تتكلم فيه أصلا..."
تجيبها صديقتها" هوني عليك فكل البشر، منافق... ألا ترين المصلين في المسجد؟ اتبعيهم لتري فيهم الغشاش و شارب الخمر و هذا يصاحب البنات و الآخر يسرق من أموال الناس..." و جعلت تذكر جميع الذنوب كبيرها و صغيرها.
انتابني شعور بالأسى و الحزن على حالنا نحن البشر... لقد رفعوا هذه السيدة إلى درجة الملاك من خلال مظهرها و كلامها و ربما لأنهم لم يسمعوا عنها إلا خيرا... لقد ألصقوا شعار الملاك على جبين السيدة... و صدقوا حينها أنها ملاك ... ثم لم يعد لها الحق في الخطأ... و ياويله خطأ الملاك.
مشكلتنا أننا لا نعترف بإنسانيتنا و لا نتقبل خصائصها. فمنذ بدأت عقولنا بالوعي و قراءة القصص و مشاهدة الرسوم المتحركة كنا لا نركز إلا على شخصيتين لا ثالثة لهما، البطل و هو ذلك الصديق المخلص، الانسان المهذب، لا يكذب و يضحي من أجل الخير، الجميع يحبه و يتبعه، نموذج مثالي كامل.
ثم شخصية الشرير، و هو الظالم المخطئ و العدو اللدود.
و نكبر لننقل هذه الرؤية إلى الواقع، و نرى الناس بنظرة من اثنتين، و نطلق حكما من حكمين... و يلصق بعضنا على البعض متى شاء بطاقة من بطاقتين ...حسب مزاجه و قناعاته لينتزعها متى شاء... هذا ملاك... و هذا شيطان.
أليس هذا ظلما؟... قد تجيبني بنعم... ظلم أن أصف أحدهم بشيطان... و أقول، أكبر الظلم أن تصفه بملاك... لأنك بذلك تحمله ما لا يطيق... تنتزع منه خصائصه و فطرته لتحاسبه عن خصائص الملائكة...فبأي حق؟
بداخلنا نواة تنادينا لكل جميل هي تلك الفطرة...لكن على عكس الملائكة جعل الله لنا شهوات و غرائزو نقائص، فالانسان هلوع جزوع عجول و ضعيف، يؤثر و يتأثر بمحيطه، يفكر و يقلد و يختار... و على عكس الشياطين هو يتقلب بين الخير و الشر يحاول إثبات ذاته و يحاول ترويضها كل حسب ظروفه، علمه، إيمانه،و قناعاته ... و غيرها من المتغيرات.
ننسى أنفسنا، و نعطيها الحق لنجعل فلانا أفضل من فلان. و ندخل فلانا للجنة، و ندخل فلانا للنار. نعطي فلانا درجة المؤمن التقي و نحكم على الآخر بالمنافق.
لقد سئمت سماع أحكام نطلقها على الناس بسبب خطإ.. طبع سيء.. كلمة.. بسبب الشكل، بسبب المحيط أو الأسرة... الجميع يحكم على الجميع ... و الجميع له الحق و الجميع مخطئ... كفانا ، فأنا "إنسان"...
أنا إنسان لا أبرر أخطائي و لكن... قد أبدو أحسن من غيري في ناظرك...ولكن، لدي أخطائي و زلاتي ..ربما لا تراها اليوم... فإن علمتها غدا فلا تحتقرني... فأنا لن أكون ملاكا.
أنا إنسان قد أبدو غافلا... بعيدا عن الدين ...قد أكون غارقا في المعصية...لكن صدقني قد لا تعلم ما بداخلي... نار تكويني؟ أو رياح تعصف بي؟... ربما سأتغير بل و أرجو أن أتغير قبل أن يحين موعد رحيلي... لذلك لا تلعني و لا تشتمني فأنا لست بشيطان.
هو عبد الله، رجل آمن بالله، صلى مع رسول الله، و عاش مع الصحابة...
لم يكن عبد الله إنسانا مستقيما في ناظر كثير من الناس... فقد كان مدمن خمر... عوقب بالجلد مرارا و مع ذلك كان يعود إليه... و في إحدى المرات قال رجل من القوم" اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به" فأجابه معلم البشرية و خاتم الرسل محمد عليه أفضل الصلاة و السلام" لا تلعنوه، فوالله ما علمت، إنه يحب الله و رسوله".
هكذا يعلمنا القدوة..."فوالله ما علمت" إشارة أنه علم ما خفي عن العامة من الناس... و أنت؟... يا من تحكم عن الناس، ماذا علمت عما تخفي الصدور؟
صدقوني... لو كنا لنعلم كما علم النبي، لأشفق بعضنا على بعض و لحزن بعضنا لحال بعض، لحرصنا على مساعدة بعضنا البعض، إذا لم يكن بالنصح فبالدعاء و ذلك أضعف الايمان.
سيظل الانسان في قصة حياته يضطرب بين تمرد و خضوع في صراع أبدي بين الحق و الباطل. ستمضي به الأيام ليكون أحيانا ذلك الطيب الصالح و ربما تخذله شهواته و عيوبه فيبدو ذلك الغافل المذنب... فيه من الخير ما فيه... و فيه من الشر ما فيه... منها ما ظهر و منها ما بطن...
أخي الانسان، دعنا من الأحكام... فالدنيا دار من الأوهام... احذر فكم من غافل تاب و لم تعلم به... و كم من مستقيم خاب و لم تدري به...
هي ليست دعوة لاستباحة الخطأ، إنما هي دعوة للعودة للذات و العمل على إصلاحها و عدم تتبع أخطاء الناس و إشهارها... دعوة لعدم الشعور بالصدمة إذا تغير أو أخطأ الناس.. دعوة للتعاون، ليرحم بعضنا الآخر و لينصح بعضنا بعضا... و كفانا أكلا في لحوم بعضنا البعض...
التعليقات
مقال يستحق التفكر فيه جيدا والعمل بمتقضاه ... كتب الله أجرك زينب . دام قلمك متألق وداعى الى الفضيلة .. تحياتي وتقديري لكى