تحضر البيئة في جل الأعمال الأدبية كفضاء للحدث، ومساحة تحتضن طاقة السرد أوالشعر بحسب ما يراه الكاتب ويقرره.
ورغم أننا نشهد منذ أواخر القرن الماضي صيحات عالمية، وحملات ذات ثقل دولي لحماية البيئة، ووقف أشكال التدمير الإنساني لمقومات العيش، إلا أن الكتابة الأدبية لا زالت حتى اليوم تتمسك بالبعد الجمالي للطبيعة، والرؤية التي تكتفي بها كخادم لوجود "الأنا"، هذا الأنا الذي أتعب مَن حوله، وما حوله !
عمل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو في مقتبل حياته صانعَ أقفالٍ ثم ميكانيكياً. وحين قررت الكتابة أن تهبه بعض أسرارها حاز على جائزة نوبل للأدب عام 1998،رغم أن باكورة أعماله الروائية "أرض الخطيئة" صدرت عام 1947 وحظيت باحتفاء نقدي مشجع.
توقف عن الكتابة عشرين سنة، ربما سعيا خلف الحكمة التي يملكها جده لأمه، والتي لا تحتاج دراية بالقراءة والكتابة. لكنه عاد بعد ذلك لإصدار رواياته الفريدة : "الإنجيل يرويه المسيح"، و"الطوف الحجري"، و"العمى" ..وغيرها .
في سيرته الذاتية المعنونة ب "الذكريات الصغيرة "، والتي يعرض فيها أهم الأحداث التي ميزت طفولته ونقشت آثارَها في وجدانه، يحكي ساراماغو كيف تعرضت أشجار الزيتون في قريته " أزينهاجا " لاقتلاع مأساوي، بعد أن عمَّرت لقرنين أو ثلاثة : " منذ عدة سنوات دمروا بلا رحمة قراريط وقراريط من الأرض المزروعة بالزيتون، فاقتلعوا مئات الآلاف من الأشجار، واستأصلوا من أعماق الأرض، أو تركوها لتتعفن، الجذورَ القديمةَ. اقتلعوا هذا الزيتون الذي ظل على طول أجيال وأجيال يضيء القناديل ويعطي للطعام طعما. قدم الاتحاد الأوربي الهدايا لأصحاب الأراضي ،وأغلبهم من كبار المُلاك، مقابل كل شجرة زيتون مقتلعة" .
تجربة مُرة عاشها الطفل جوزيه وهو يرى كيف تحولت أشجار الزيتون الغامضة إلى حقل شاسع ورتيب من الذرة المُهَجنة التي تتساوى عيدانها في الطول، وربما في عدد الأوراق و السيقان والحبات. لكنه لم يكتف كغيره من الأدباء برثاء الوضع الحالي، وإلقاء اللوم على جشع الرأسمالية، بل خاض صراعا من نوع آخر، تتحول بموجبه المأساة إلى قضية وموقف.
قرر ساراماغو ،بالتعاون مع منظمة السلام الأخضر غير الربحية، أن يتم طبع أعماله الأدبية بأكملها باستخدام ورق لا يضر بالنظام البيئي ولا يستدعي قطع آلاف الأشجار:
أخبرتُ كل ناشريَّ، يقول ساراماغو، برغبتي بأن يعملوا بهذه الطريقة، بالرغم من أنني لا أستطيع أن ألزم بذلك ناشري في البلدان الفقيرة. الورق يصبح أغلى قليلا، لكن ذلك لا يُشكل عائقا.
على صناعة الورق كلها أن تتخذ هذا النهج، فمن المحزن أننا أمسينا نقتل الغابات لننتج الثقافة. لقد فقدنا حتى الآن أكثر من ثمانين بالمئة من الغابات الرئيسية ، وإذا بقينا على حالنا فسنفقد الغابات الباقية خلال عقود".
لاقت المبادرة تجاوب أدباء عالميين أمثال غونتر غراس، وإيزابيل الليندي، ومانويل ريفاس، وخوسيه لويس سامبيدرو وغيرهم.
على أمل أن نشهد في السنوات القادمة مصانع ورق ومطابع صديقة للبيئة !
-
حميد بن خيبشكاتب شغوف