كثيرة هي تلك الأحاسيس التي تراودنا من وقت لآخر ، تنقلنا بين ضفاف نهر الحياة لتعلمنا أننا بنو البشر مخلوقات كرمها رب العالمين بقدرة دفينة لا يعلمها إلا القليل ، عن ميزة اسمها الاتصال مع كل ما حولنا و كل من حولنا دون أن ننطق بكلمة واحدة ...و مكانها بين البصيرة والسمع والفؤاد ...ذلك الذي لا ندري بعد مكان وجوده إلا أننا نعتقد يقينا بما وضع الله فيه من خوارق ، و هذا ما اكشفه بعض الناس لدى لقائهم بذلك الزائر الغريب الذي يحررهم من شهوات أنفسهم كلما مر بالقرب من جانبهم الخالد المسمى روحا...
فكعادته ،كان يدخل إلى كل حي و مدينة في ثوب ذلك الشيخ الحكيم الذي لا يبخل عن كل ما حوله بابتسامة تبعث في الروح نسمة عليلة ، تسند قامتها و تمسح الغبار عن جبينها و تدفعها إلى الأمام علها ، علها تدرك ما معنى أن يكون الواحد منا إنسانا ...
لم تتغير هذا العام طريقة استقبالهم له، فرحون ، مهللون ، مستأنسون و ساهرون منتظرين قدومه و متلهفون لسماع خطبة وصوله ، فقد تعود صديقنا هذا في كل عام يزور فيه المدينة ...
مرت الدقائق والساعات على عجل ، و صديقنا لم يظهر للعيان بعد ، بدأ الجميع بالتساؤل ، "أنكون قد أخطأنا حساب يوم قدومه ، أنكون ربما قد استعجلنا يوم وصوله"، و بدأ الجميع ينشغلون أكثر مما مضى عما إن كانوا على صواب أم أن بعضا من حساباتهم قد ضلت طريقها هذا العام ... ربما
ساعة بعد ساعة ، بدأ الحاضرون بالإنصراف ، فقدوا الأمل في قدومه ، نكسوا رؤوسهم و تعاتبوا في الطريق عمن يلقون اللوم إلى أن فرغت ساحة المدينة من سكانها ، أو لنقل كادت أن تفرغ ...فإني أرى بعض الأطفال الذين لم يجد اليأس طريقا لقلوبهم بعد ، أراهم واقفين حاملين البسمة ورودا لاستقبال ضيفهم الذي علمهم في ما مضى من الأعوام ، علمهم كيف ينصتون لذلك الصوت الذي ينتابنا في كثير من الأحيان و لا ندري من أين قد يكون أتى ...
قالت طفلة صغيرة بينهم ، ربما لم تكمل عامها السابع بعد :"أتدكرون يا إخوتي ما كان آخر ما وصانا به قبل رحيله ،أني و إن كنت قريا منكم فستجدون ذلك بين أضلعكم و تدركون وجودي بينكم ، و أنا والله لأرى ذلك الآن أمامي غير أني لا أدري ما يحدث للناس أن انفضوا من حولنا "
قالت الواقفة بجانبها :"أتدرون يا إخوتي ، فنحن ما لنا مسكن نعود إليه ، ولا أهل يسألون عنا أين نسير ، و ولله ما وجدت أحن علينا منه في قدومه ، و لا زلت أحمل ذلك الشعور في داخلي و هو يزداد دقيقة بعد أخرى ، فيا رب لا يعلم الغيب غيرك ، وعلمك أعلم من علمنا عن ذواتنا ، لا يخيب فينا رجاؤك ، و ما رددت لنا طلبا قط ، فأنت القريب أقربا منا إلينا ، نسألك أن تمد في عمرنا ساعات أخرى للقاء ضيفنا و ضيفك العزيز..."و تغررت عينا الفتاة بالدمع و هيا رافعة رأسها إلى السماء التي لا يزال ثوبها المزين بالنجوم على حاله مستعدا لاستقبال الغريب ...
تجمع الصبية حول بعضهم البعض ، واضعين أيديهم في أيدي بعض ،و أخذوا بالدعاء...
أغمضوا عيونهم ، لينصتوا سوية لذات الصوت الذي يخبرهم عن حال قدوم معلمهم و نهضوا من جديد سوية ليرددوا أغنية كان في كل يوم يرددها معلمهم على مسامعهم قبل النوم ...
"إياك و أن تبحث عني و أنا أصيح و أغني ، أغني أغنية المطر ، فأنا لا أرى المطر ، إنما هي قصص جدتي و ما ببالها قد خطر ... ميم محبة لكل البشر ، و روحي طارت محلقة لتمعن النظر ، إلى أن جن الليل و رائي تقف تحت ضوء القمر...فقد حكت عن مكان لا أدري إن أحد إليه نظر ...نهضت أبحث حولي إلى أن وجدت من كانت عيني لا ترى ، مطر مطر مطر ، إياك أن تبحث عني و أنا أصيح و أغني..."
على أنغامها نهض الأطفال و أخذوا يتبادلون الأدوار في غنائها يرقصون يهللون ، يركضون هنا و هناك محاولين إيقاظ الناس في المدينة ، يذكرونهم بها ، علهم يعودون من جديد إلى أن تعبوا و بدأ صوتهم يخفت و يسود الصمت من جديد...
"إياك أن تبحث عني و أنا أصيح و أغني .أغني أغنية المطر ....مطر مطر مطر إياك أن..." كلمات لم يسمعها غير أولائك الأطفال و هي قادمة نحو أذانهم على استحياء ... شئيا فشيئا بدأ الصوت بالإقتراب منهم و هم يبتسمون ، لأدراكهم هوية من يغنيه ، بدأت البسمة تعود لمحياهم و هم يرددون ذات الأغنية ، أداروا رؤوسهم سوية ، ليجدوا من كان يغني واقفا وراءهم ، تجمعوا حوله ليضموه إليهم و هم لا يكادون يصدقون أن من لم يملون في انتظاره قد عاد إليهم ، نعد لقد عاد ، حاملا معه هداياه ، كلماته ، حنانه و عطائه و قال:"لقد أدركت أني سأجدكم هنا ، فالله أعلم بمدى اشتياقي إليكم ... و أين أهل الحي ،هل ناموا؟ "مبتسما و هو يعانق أولائك الأطفال الذين قالوا بصوت واحد :"الحمد لله الذي أعادك إلينا ، فأنت عيننا التي نرى بها ما حولنا ، أخذ منها ربنا قدرة البصر الذي يتحلى به الكثير ، لكنه عوضنا في بصيرتنا فصرنا نراك تغني معنا و تعانقنا كما تفعل كل عام ، فالحمد لله أن أمد عمرنا للقائك يا رمضان ..."
ليلة فريدة...عاد فيها الحبيب لأحبائه ،فأعاد لهم فرحتهم و أنار بصيرتهم ، كفرح يعقوب بريح يوسف .فكما هو لؤلؤة بين إخوته الأحد عشر ، فكذلك رمضان بين أخوته من الشهور ...يعود إلينا من جديد ، والحمد لله أن أطال في أعمارنا و مد فيها لنراه من جديد ، فتعود إلينا بصيرتنا و تنهض روحنا فينا من جديد ، فندرك أن ما للأيام من حق علينا ، يكمن فينا ، يختبؤ منا فينا ، و لا يخرج إلينا ليصير حقيقة أمامنا إلا بعد أن نتعلم أغنية المطر ، فكما لرمضان و أولائك الأطفال المساكين عهد قديم ، فكذلك لنا معه عهد لا تبليه السنين ، فنحن كأولائك الأطفال ، ولدنا مساكين و نعود إلى ربنا مساكين...فاللهم احشرنا مع المساكين و لا تحرمنا الخير الذي أودعته في رمضان...