المقاربة السينمائية للفن التشكيلي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المقاربة السينمائية للفن التشكيلي

الجزء الأول:

  نشر في 14 أبريل 2017 .

  يبدو العمل على الفن التشكيلي كخامة للكتابة السيناريستية السينمائية أمرا لا يخلو من الغموض، و يدعو إلى بحث عميق باعتبار و أن كلاهما فنا قائم الذات ، يعتمد كل منهما أدواته الخاصة للتعبير. و حتى و إن سلمنا بان السينما لا تستثني أي تعبير فني لصنع أفلامها، فان مسألة بناء السيناريو من خلال الحضور و التجسيد داخل الفضاء التشكيلي يدعونا للتأمل و طرح سيلا من الأسئلة.

و لما كانت السينما تتطور منذ ظهورها بتطور الآلة و التكنولوجيات التي تستمد منهما بعدها المادي، فإنها ما انفكت تتطور على المستوى المفاهيمي. فأصبح الحديث اليوم عن الكتابة الحينية للسيناريو عبر الكاميرا، أمرا ينتمي إلى تاريخ السينما. فمنذ أربعينيات القرن الماضي أطلق على هذا المفهوم اسم "الكاميرا القلم"، و الذي تحدث عنه "Alexandre Astruc"، فقدمه على أنه رؤية إخراجية جديدة تقطع مع الكتابة السيناريستية الكلاسيكية و تشتغل على أهمية الصورة لتتفرد هذه الأخيرة بتوفير مقومات إدراكها دون اللجوء إلى النص فيكتب المخرج الفيلم عبر الكاميرا كما يكتب الروائي نصوصه عبر القلم. ثم تعددت التسميات و اختلفت باختلاف الأنماط السينمائية و الأديولوجيات التي تختفي وراء كل عدسة تصوير في محاولات لتمثيل الواقع و محاكاته.

و بالنظر في مسألة الواقعية التي توهمنا بها عملية التصوير الحيني للحدث دون الالتجاء لنص مسبوق، فإن فوهة اللبس قد تتوسع و تضعنا أمام مفارقة كبيرة. إذ بالنظر إلى الجانب التقني و التكنولوجي المعتمد في السينما، و نتحدث طبعا عن آلة التصوير، فهو يبقى عائقا أمام العمل الذي يزعم أنه معبر بصدق عن الواقع ،أي أن الصورة التي تستمد ماديتها من الآلة، سوف لن تكون أبدا قريبة من الواقع. بل ستبقى اصطناعية تماما أو كما وصفها " André Bazin" (بالواقعية المجترة)، أي تلك التي ادخل عليها الفعل التكنولوجي تطورات أدت إلى تفكيك الحدث عبر الزمن لتصبح الحركة عبارة عن مجموعة صور فوتوغرافية متتالية تخضع إلى رغبات عملية المونتاج.

لعل الإعداد لفيلم سينمائي انطلاقا من الفن التشكيلي أو باعتماد لوحة تشكيلية في مرحلة انشائيتها كما هو الحال في فيلم "le mystère Picasso" ،قد يعقد عملية الإدراك. إذ يجد المتلقي نفسه أمام هذا المشهد في وضعية التأمل أو ربما تحسس مناطق الضوء من العتمة، و البحث عن حقيقة فحوى المادة السمعية البصرية المزدوجة التي هو بصدد متابعتها، فبناء الفيلم هنا سوف يتزامن مع بناء اللوحة. و لما كانت عملية التلقي مسبوقة دائما بوضع معين يتحضر خلاله المشاهد بمجموعة من أدوات تحليل الصورة، طبعا باعتبار النمط المعتمد و الذي يعلمه مسبقا. أي هل انه بصدد مشاهدة فيلم روائي أو وثائقي أو هو إزاء لوحة أو رسم أو منحوتة ما، بالتأكيد فإن أدوات التلقي تختلف باختلاف النمط. و يمكن الإشارة هنا إلى أن المتلقي العادي و البسيط من مرتادي قاعة العرض السينمائي، غالبا ما تكون غايتهم المتعة في استهلاكهم للخدعة البصرية السينمائية، أو تأثير التنويم المغنطيسي الذي يفرزه تواجدهم داخل قاعة العرض، و الذي أشار اليه " Roland Barthes" في احد مقالاته بعنوان "عند الخروج من قاعة العرض". فلعلهم يعتبرون الحضور التشكيلي في الفيلم أداة تأثيث تنتمي إلى قائمة عناصر الديكور لا غير و لكن ما الذي قد يحدث خلال عملية التلقي عندما يتزامن التصوير السينمائي مع إنشائية اللوحة و تكون اللوحة التشكيلية هي موضوع الفيلم أساسا ؟

قد تتيح لنا هذه الرؤية الإخراجية مساحة للمشاركة في بناء السيناريو أو ربما إيهامنا بأننا نتابع الأحداث لحظة وقوعها بغياب كلي للحبكة، و يمنحنا الحق في المشاركة في كتابة السيناريو. فتصبح بالتالي عملية المشاهدة هنا تخضع إلى آليات التحليل التي تقترحها علينا السميائية لتضبطها بالتالي مقاييس علمية و أدوات دقيقة تندرج ضمن الثقافة البصرية. مما يمنحنا القدرة على المراوحة بين الدلالة و الرمزية و اعتماد مفاهيم التعبير المجازي إزاء ثنائية الدال و المدلول. و من هنا يمكن تقفي الرموز التي تخفيها الصورة داخل تركيبتها العجيبة. و انطلاقا من هذه الفرضية يتولد البعد الشعري، الذي يعطي للمادة السمعية البصرية بعدا إنشائيا افتراضيا، و الذي بدوره يصعد و يعمق الشعور لدى المتلقي، فيصير فعالا أكثر أي انه يصبح مشاركا في عملية اكتشاف صيرورة الحدث، دون الرجوع إلى دعم الاستنتاجات الجاهزة، التي تندرج ضمن قائمة الحبكة أو تلميحات المؤلف، و التي عهدناها في البناء الكلاسيكي للفيلم الروائي، فهي تبيح التقييم العاطفي و العقلاني. و يرغم من خلالها المخرج جمهوره على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة متكاملة ليعتمدها هذا الأخير لإدراك الفيلم.

رغم محاولة المخرج الجز بالمشاهد في صيغة حدثه السينمائي فان هذا الأخير لا يمكنه الهروب من طرح السؤال حول مدى واقعية الحدث الذي يشاهده. انه هنا يتابع و يشاهد لحظة بلحظة، فيعطيه المونتاج فرصة للرؤية عبر عديد الزوايا في آن واحد. يستمع إلى الصوت داخل و خارج حقل الإطار لكنه لا يدرك الحقيقة، هل هو يرافق الحدث من الداخل أم انه يرى ما يريد له المخرج أن يراه. بالتالي فهو يتأرجح بين الواقع و الخيال أو ربما يتوهم انه بصدد مشاهدة حدث يرجح أن يكون حقيقة وواقع.

بقطع النظر عن مسألة مدى واقعية الحدث السينمائي فإن لحظة الخلق و التي وصفها " Gilles Deleuze" بالضرورة و الإستعجالية في الصناعة السينمائية" تتميز عن الفن التشكيلي بكونها لا تتطلب الفكرة بل تقحم السينمائي مباشرة في الإنتاج و استئصال الحدث من مكانه الطبيعي. و ينص تاريخ السينما عن تعدد إمكانيات تمظهر هذا الحدث مرتبا إياه ضمن أصناف و أنماط و مدارس متنوعة، ما دعا جل العلوم الإنسانية للنظر و التدقيق فيها، باعتبار و أن هذه الصناعة لا تقتصر على العمل الفردي بل هي نسيج لا متناهي من المهارات و التقنيات تستدعي أبعادا عديدة كالفلسفة و السوسيولوجيا و البسيكولوجيا إضافة الى التكنولوجيات التي تستمد منها بعدها المادي.

و لكن كل ما ذكر سالفا قد لا يجيب عن مسألة اعتماد السينما للفن التشكيلي كخامة و لا يشفي تشوقنا لمعرفة الدواعي، فمنذ الوهلة الأولى تبدو المسألة في غاية التعقيد. و ربما يؤكد لنا "سقراط"هذا الطرح من خلال تساؤله "ألن يكون كل شيء مزدوجا؟ حيث لن يسعنا التمييز بين الاثنين ما الشيء و ما الاسم" . لن تعدو هذه المعطيات أن تكون سوى حافزا للبحث في مسألة الاستشهاد و تعدد اختصاصاتها في العلاقة التي تجمع الفنون ببعضها خاصة منها السينما باعتباره فن الخلاصة أو الحوصلة، و بوصفه ذو الطابع الإسفنجي الذي يمتص الزمن و المكان، و الذي لا يستثني جميع الفنون الأخرى لصناعة الفيلم، خاصة منها الفنون التشكيلية. و لعل عمق العلاقة التي تجمع السينما بالفن التشكيلي لم تعد تقتصر فقط على اعتماد السينما لمصطلحات تقنية و مفردات تعبيرية ذات هوية تشكيلية، على غرار التكوين والحركة و التوضيب واللون والضوء والمشاهد واللقطات وتركيب الصور فقط، بل انه أصبح ينسج صوره أحيانا باعتماد كلي لفن الرسم الذي من شأنه أن يساهم كثيرا في خلق سبل الإثارة و التشويق، لا سيما التيارات و المدارس التشكيلية التي استلهمت منها السينما بعدا تعبيريا فكانت نموذجا لصناعة الفيلم.و لعل ذلك ما يدعونا إلى التساؤل حول جدوى التوظيف الذي يكاد يكون إعادة إنتاج أو تمثيل لأثر فني تشكيلي، و كأننا بالسينما تتشبه بالآداب في عملية الاستشهاد هذه أي كأنها تدرج مرجعا ما حتى تستمد من خلاله تبريرا أو ربما تعليلا لفكرتها الأصلية.

قد يشرع المعجم التشكيلي بأبعاده التقنية لاهتمام الفيلم بمعالجة المادة التشكيلية و لكن ما إن تعبر الكاميرا عتبة ورشة الفنان في محاولة للتوازي مع ريشة الرسم داخل حيز زمني موحد لحظة العملية الإبداعية فإنهما يشتركان آليا في إنشائية مزدوجة يترتب عنها أسئلة استيطيقية و انطولوجية.

أما السؤال الأنطولوجي فسوف يهتم بدواعي تطفل السينما إن صح التعبير على اللوحة التشكيلية وقت بناء فضاءها رغم ما تتمتع به من أساليب متعددة و متنوعة التقنيات و المعدات. في حين أن اللوحة هي الأخرى لها قوانينها و أدواتها الخاصة التي تضبط من خلالها طرق التعامل مع دلالاتها إزاء جمهورها. بالتالي قد يتولد عن هذه العملية خطر انحياز السينما عن مسار و مساحة اشتغالها و يربك جمهورها عند محاولة فك رموز دلالاتها التي اعتادها مميزة عن باقي أنماط التعبير الفني الأخرى .

أما بالنسبة للسؤال الإستيطيقي فسيكون كالآتي : ما الداعي لأن تعيد السينما تأطير اللوحة الفنية التي تتمتع أصلا بإطارها الخاص؟ تفككها إلى أجزاء على شكل لقطات، و تعيد بناءها مرة أخرى و لكن بطابع سينمائي. فتتشعب بذلك وجهات التأويل لتزيغ السينما باللوحة عن مسار إدراكها الصحيح، و تعطيها بالتالي بعدا استيطيقيا جديدا، قد يكون الأقرب للتعبير عليه بالهجين.

و لما كان التعبير الفني موجها بالأساس لجمهور متنوع الأذواق تتميز كل فئة منه بميلها إلى طابع تعبيري معين، فإن مستهلك الفنون التشكيلية قد لا يجد مبررا لتواجد السينمائي داخل ورشة الفنان، معيدا لحركات الريشة عبر الكاميرا. فتتولد إشكالية الهوية و الاستحقاق. فالحامل التشكيلي أصبح ملكية خاصة للمخرج لما استأصله من مكانه الطبيعي و زج به داخل الفضاء السينمائي ثم على طاولة المونتاج ليمضي هو الآخر على هذا الأثر الفني في مساحة لا نعلم بعد مكانها.

و باعتبار أن اللوحة ممضاة منذ البداية سنكون إزاء إمضاءين اثنين لأثرين فنيين يمتزجان حد التوحد و العكس سيكون صحيح أي أن جمهور قاعة السينما و الذي يختلط فيه المتلقي الواعي و المتلقي العادي قد تتبعثر الأفكار لديهما، إذ أن المتفرج العادي تعود ارتياد قاعة السينما بحثا عن المتعة التي تؤمنها الخدعة البصرية و الحبكة الروائية بعيدا كل البعد عن جماليات التشكيلي و أبعاده الفلسفية خصوصا إن كان ضمن شريط وثائقي غالبا ما تكون المنفعة العلمية من استهلاكه تغلب جانب المتعة فيه.

من هذا المنظور سنحاول الخوض في التقصي حول مسألة الإستشهاد السينمائي بالفن التشكيلي عموما و البحث خاصة في نتائج تلاقحهما و ما ستفرزه الكتابة السيناريستية المتزامنة مع الحدث التشكيلي من خلال دراسة تحليلية لفيلم Le mystère Picasso باعتباره وثائقي سيرة ذاتية و فيلم la jeune fille a la perle باعتباره عينة من النمط الروائي الذي اشتغل بطريقته الخاصة على الحقل التشكيلي. سنحاول فك الرموز و الدلالات التشكيلية التي اعتمدتها في مجموعة من الأمثلة سعيا وراء رفع اللبس الذي تتصف به الجدلية القائمة في عملية التلاقح المرجعي بين مختلف الفنون، و الذي يندرج ضمن محورين أساسيين و هما الأنطولوجي و الإستيطيقي ، خاصة بالنسبة لفيلم le mystère Picassoبحيث سيتيح البحث في العنصر الأنطولوجي التطرق إلى التموقع التاريخي لهذا الأثر الفني، و الذي من خلاله طبعا، يمكن معرفة الحركات الفنية التي انتقلت بالفيلم الوثائقي إلى هذا الشكل السينمائي الجديد باعتبار تاريخ إنتاجه و قطعه مع الشريط الوثائقي الكلاسيكي ما قد يحيلنا بالتالي إلى البحث في بعض المسائل المتفرعة و المندرجة ضمن موضوع السينما الوثائقية على غرار مسألة الواقعية علنا نستطيع تحديد البعد الأنطولوجي للفيلم في حد ذاته أما الجانب الإستيطيقي فسنهتم من خلاله بالتقنيات التي تعرضنا لها أثناء مشاهدة الفيلم و سنحاول تحديد العناصر التشكيلية ثم السينمائية و البحث في عملية تزاوجهما أو تلاقحهما و التي يقترحها " Clouzot" من خلال تجربته مع" Picasso". الى جانب فيلم Le mystère Picasso سنتطرق كما أشرنا أيضا لفيلم La jeune fille a la perle باعتباره نمط سينمائي مختلف من حيث الأسلوب و البنية و تجربة أخرى مع الفنون التشكيلية في الفيلم الروائي.

فما الذي يمكن إذا أن تضيفه الصورة التشكيلية للعمل السينمائي باعتبار و أنها ساكنة دون حركة تنحت أبعادها داخل إطار ثنائي الأبعاد بعكس الصورة السينمائية التي تعتمد الحركة بامتياز و تنحت في الزمن بكل مرونة ؟ 


                                                                               الى اللقاء في الجزء الموالي

                                                                                          حلمي بوترعة

                                                                                             14/04/2017 



   نشر في 14 أبريل 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم






عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا