دائماً ما نسمع بكلمة ( الغيب ) والإيمان بــ ( الغيبيات ) وخصوصاً عند المؤمنين المتدينين . إذا جئنا لنترجم هذه الكلمة عبر مترجم جوجل الشهير فسوف يكون المعنى بالتأكيد ( Unseen ) ، ولكن حقيقةً هذه الكلمة لا تعبر تماماً عن معنى الغيب بالمفهوم الديني . وقد يستخدم البعض مصطلح ( الميتافيزيقية ) وهذه الكلمة تعبر عن الدراسة للأشياء المجردة . إن الغيب هي أشياء لا تُدرك بالحواس البشرية ، ولا بقدرات العقل المحدودة . لذلك قال تعالى في سورة الأنعام آية 103 : ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ))، فهو سبحانه وتعالى لن تراه الأبصار ولن تدرك ماهيته ، فهو أعلى وأجل وأعظم . والإنسان بطبيعته الفطرية لا يؤمن بما لا يراه ، بل يصدق كل ما يبتليه بنفسه ، ويقتنع به ، ومع رغم هذه الطبيعة البشرية إلا ان الاديان التوحيدية السماوية استطاعت ان تجعل الإنسان يؤمن بالغيبيات ، وتعد من يؤمن بها بالنعيم المقيم . إذا أتينا لننظر نظر سريعة إلى تاريخ العرب قبل الإسلام فإننا سوف نجد انهم كانوا يهوداً ، ومسيحيين يؤمنون بالكتاب ، ويؤمنون بالغيب ، إلا أن جاء عمرو بن لحي وأدخل عبادة الأصنام إلى بلادهم وعبدوها ، يقول ابن كثير في كتابه المشهور ( البداية والنهاية ) المجلد الأول ص572 : (( قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض إلى البلقاء وبها يومئذ من العماليق وهم ولد عملاق ، ويقال : ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نبعدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا . فقال لهم : ألا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه ؟ فأعطوه صنماً يقال له " هبل " فقد به إلى مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه )) هذا التحول كان نتيجة النزعات البشرية الطبيعية الفطرية في رفض الغيب ، والإيمان فيما هو محسوس ، فهم فعلياً لم يحولوا عبادتهم إلى الأصنام واستفردوا بها آلهة
بل عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى ، كما حكى بذلك الله في كتابه العزيز : ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )) { سورة الزمر ، آية : 3 }
فهم بحسب طبيعتهم البشرية لم يتصوروا انهم بمجرد انهم يقومون طقوس وحركات معينة سوف تعتبر عبادة للإله الذي يعبدونه ، فأخذوا أبسط ما لديهم ليقربهم إلى الله .
ولما جاء الإسلام اهتم بــ ( الغيب ) ، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم : ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )) { سورة البقرة , آية : 2 } ؛ فالمتقين يقول عنهم الله ويعرفهم في الآية 3 من سورة البقرة ، قال تعالى ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )) فكانت اولى صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب ، وقد قال الرسول لجبريل في الحديث الطويل وهو الحديث الثاني من احاديث الأربعون نووية : ((قال : " فأخبرني عن الإحسان " ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( . وفي العصر الحديث انتشرت موجة الإلحاد في العالم ، وصارت هي الموجة الرائدة ، ليس لسبب في ذاتها ، بل لأنهم استطاعوا تفسير أشياء كانت تُفسر قديماً بخزعبلات دينية عند الشعوب البدائية . ودائماً ما نسمع الملحدين يقولون : نحن نعبد قانون كل شيء ، فهم عادوا إلى طبيعتهم البشرية الرافضة للغيب ، والغيبيات ، وآمنوا بالحواس ، والعلم ، ورفضوا فكرة الإله . فالإيمان بالغيب له أجر كبير ، ونلتمس هذا في القصة التالية :
وروى الإمام أحمد من حديث أبي جمعة - رضي الله عنه - قال: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومعنا أبو عبيدة بن الجراح, فقال: يا رسول الله, أحد منا خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك, قال: نعم, قوم يكونون من بعدكم, يؤمنون بي ولم يروني. قال الشيخ الألباني: رواه الدارمي وأحمد والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي, وإسناد الدارمي وأحد إسنادي أحمد صحيح.
-
Mahmood Mahmoodكاتب، وباحث صاعد