فِي هِجاءِ السَّمَكة ! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فِي هِجاءِ السَّمَكة !

  نشر في 07 يناير 2017 .


    يُحكى أنّ داود باشا أحدُ وزراءِ الدّولة العُثمانيّة أرادَ أن يَتَعلّم العَربية، فأحضَر أحَدَ النّحاةِ المَعروفينَ بالعِلم، وأنشأ يتلقّى عَليه دُروساً بُرهةً مِن الزّمن، وذاتَ يومٍ سألَ شَيخهُ عَن الجِنايةِ التي جَناها عمرو ليستَحقّ أن يَضربهُ زيدٌ كلَّ يوم ؟، وهَل بَلغَ عمرو مِن الذلِّ والعَجز مَنزلةً حَتى أنّه يضعُفُ عَن الإنتقامِ لنفسِه وضَربِ ضارِِبِه ؟، وكانَ يستَشيطُ غضباً وهو يسألُ شيخَه، فأجابَهُ الشيخ: أنّه ليسَ هُناكَ ضارِبٌ ولا مَضروب؛ إنّما هي أمثلةٌ يورِدها النّحاة لِتقريب المَعنى إلى المُتعلّمين.

   لَم تَكن الإجابةُ مُقنِعةً للوَزير، وأكبَر وأعظَمَ أن يَعجزَ مِثل هذا الشّيخ عَن معرفةِ الحَقيقة، فغَضِبَ وأمَرَ بسجنِه، ثُمّ أرسَل إلى نحويّ آخر، فأجابَه نفسَ الجَوابِ فسجَنه، ثمَّ أرسَل للنّحويينَ تِباعاً، حَتّى أقفَرت المَدارِس، وامتَلأت السِّجون، وأصبَحت هذا القَضيّة شُغلَهُ الشّاغِل، ثُمَّ بدا لهُ أن يَستَقدمَ علماءَ من بغداد، وكانَ رئيسُهم بمكانَةٍ من العلمِ والفِطنةِ والحَذق، فلمّا اجتَمعوا عِندَ الوَزيرِ وأعادَ عليهم السّؤالَ عَينَه، أجابَ: إنّ الجِناية التي جَناها عَمرو يا مَولاي يستَحقّ أن يَنالَ عليها العُقوبَة أكثَر َمما نال، ذلكَ أنّه هَجَم على اسمِ مولانا الوَزير، فاغتَصَبَ مِنه الواو، فسلّط النّحويونَ عليه زيداً يضرِبُه كُلّ حِين (يُشير إلى زِيادة واو عَمرو وإسقاط واو داود الثانِية في الرَّسم)، فأعجِبَ الوَزيرُ بِه، وأثنى على عِلمِه وَفِطنَته. (1)

   لَيسَت هذه القِصّة محضَ ترفٍ فكريّ، ولا خُرافةً جادَت بها عُقولُ الكُتّاب، بل هِيَ ردّة الفِعلِ الطَبيعيَّة على التّشدد والتَّشدق في النّحو والصّرف، ولعلّ هذا انعَكس سَلباً فيما بَعد على المُستوى اللّغويّ، فعَزفَ المُتعلمونَ عن العَربيّة وقواعِدها، وهَجروا النَّحو والصَّرف والبَلاغة، فتَجدُ المُتكلمَ صاحِب الشّأن، لا يُميّز بينَ المَرفوعِ والمَنصوب، وبينَ المتقدِّم والمتأخر، وتجدُ الصَّحافة أيضاً ترتَكِب المَجازِر اللّغوية في كِتاباتها، وتقاريرها اليَوميّة.

   إنَّ هذا دَفعني إلى هِجاءِ السَمكة، كما هَجاها قَبلي ميخائِيل نُعيمة، السّمكة التي أغرقَنا بدراسَتها مُدرّسو النَّحو طَويلاً، فَيَقولون:

أكلتُ السَّمَكَة حَتّى رأسَها

أكلتُ السَّمَكَة حَتّى رأسُها

أكلتُ السَّمَكَة حَتّى رأسِها

بالحَركاتِ الإعرابيّة الثّلاث، وَهذا المِثال لِبيانِ استِعمالاتِ حَتّى، فيمكِن أن تَكونَ حَرفَ عطفٍ أو ابتِداءٍ أو جرٍ، ورُبما تَكونُ غَيرَ ذلكَ فأنا لا أعلمُ حقاً، ثُمّ يختِمونَ حديثَهم بأنّها – أيّ حَتّى – حَتحَتت عُقولَ العُلماء، وأنَّ الفَرّاء العالِمُ النَحويّ المَشهور في فراشِ موته قال: أموتُ وفي نَفسي شيءٌ مِن حَتّى.

   أنا لا أنكِر أنّ هذه الشّواهِد والإعرابات هي مِن المُعجزاتِ اللّغوية، لكنّني أعتَقدُ أنَ علينا الإكتفاءُ بهذا القَدر ، بَعدَ أن تَردَّت اللغةُ، وقلَّ أهلُها، فَعلى صَعيدِ اللّغة علينا التَّوجهُ إلى تَبسيطِ اللّغة وَتَحبيبِها إلى العامّة، والتّوقف عَن استِخدام الشّواهِد النّحوية المُنفرة والمُوحِشة، وإذكاءِ الأذنُ الموسيقيّة، التي تَستطيعُ تَمييز العلامَة الإعرابيّة سَماعيّاً، وتشجيعَ القراءَة، ومزجَ النّحو بالأدب المُسلي والجَميل، أمّا على صَعيدِ الأدب فعلينا الإلفاتَ إلى العاطِفة والوِجدان، والتّوقف عَن استِقدام غَريبِ الألفاظِ، وأن نَقتربَ بأشعارِنا إلى البساطَة والفَهم، وقضايا العامّةِ وهمومِهم، عَلينا جَميعاً أن نَتَكاتَف مِن أجلِ هذا، كَي يَعودَ للعَربيّة مجدُها، وكي تَتَوقفَ المَجازِر اليوميَّةُ بحقها، من الخُطباء والمُتكملينَ والصّحفيين وغَيرِهم.

    أخيراً يبقى الطّرحُ نَظرياً إذا لَم يجِد مَن يُطبقه على أرضِ الواقِع كَما طَبّقته الرابِطة القلميّة يوماً، وفي هذا يقولُ نُعيمة: " إنَّ الرابِطة القلميّة ما جاءَت إلّا لاعتِقادِها أنّها اتَّخذت الأدَبَ رسولاً، لا مَعرضاً للأزياءِ اللّغويّة، فقد كَفانا ما عِندنا من المُعجِزات اللّغويّة، وآنَ لنا أن نَتَعطّف ولو بالتِفاتَة إلى ذلكَ الحَيوان المُستَحدث، الذي كانَ ولا يَزالُ سِرَّ الأسرار، ولغزَ الألغاز، فعلّنا نَجِدُ فيه ما هُوَ أحرى بالنَّظر والدّراسة مِن رأسِ السّمكة ". (2)

الهَامِش:

1. المَنفلوطي، مصطَفى لطفي، النّظرات، تَحقيق: إدارة النَّشر العَربي، الشّركة المَصريّة العالمية للنّشر، الجِيزة، 1991، ط1، ص 148 - 149 بِتَصرف.

2. صَيدح، جورج، أدبنا وأدباؤنا في المَهاجِر الأمريكيّة، مكتَبة السّائِح، 1999م، ط3، ص89


  • 11

  • مهنّد ذويب
    كاتِب وشاعِر فلسطيني، مُهتم بالشؤون الأدبية والسّياسيّة
   نشر في 07 يناير 2017 .

التعليقات

مقال جميل وممتع.
لقد حرّك في أنفسنا تقصيرنا في حقّ اللغة العربيّة .
لا شكّ أنّ المواطن العربي والذات هي من ظلمت اللغة العربيّة عندما , اعتبرت استعمالها ضربا من الركاكة , واستبدلت مكانها في المقابل لغة ركيكة تمتزج فيها فضلات التكنولوجيا , واللهجات الشعبية الفاقدة لمعنى لغوي محدّد.
0
مقال ممتع ورائع، القصة الطريفة كانت تعبيرا حقيقيا عن مأساة النحو العربي وتشنج آليات تلقينه ، والمعيارية التي يتسم بها النحاة واللغوين حتى في عصرنا هذا ..نحن بحاجة إلى تغيير الانماط التعليمية و صبغها بطابع اتصالي عملي يخرج هذه اللغة إلى السطح بدلا من ابقائها بين أكداس المُقدس والقديم ..كل التحية
1
بسمة منذ 7 سنة
منذ صغري وانا اكره النحو وذلك لصعوبة إستيعابي للإعرابات بما فيها من (فاعل ومفعول والضمة المقدرة وحروف العلة ..الخ)
لكن شاء القدر ان التحق بتخصص "اللغة العربية وآدابها" وشيئا فشيئا احببت التخصص وعشقته ، وانا الآن ارى ان النحو مادة تشبه الرياضيات من احبها يرى المتعة فيها ، ومن كرهها يرى الصعوبة فيها ......
" طرح قيم اخي مهند ، دام قلمك "
1
عاطف الدوتشي
انتي قلتي في مقالك هذا او تعليقك هذا .. شاء القدر ان التحق بخصوص اللغة العربية وادابها .. وانا اقول لك .. لا تقولي شاء القدر لان ليس للقدر مشيئة .. بديلا عن ذلك قولي شاء الله .
عمرو يسري منذ 7 سنة
مقال رائع .
لقد كان إمتحان اللغة العربية دوماً كابوساً لنا في المدرسة و خاصة النحو , فقد كان واضعو الإمتحان يبدعون في وضع الأسئلة الصعبة و الغريبة و كأنهم يتحدوننا .
1
مرور الكرام
النحو … مجهر وسماعة… توضيح للمعنى ومتعة للقارئ
محمد خلوقي. Khallouki mhammed
مقال مميز كتابة وتحليلا وطرحا وقد فتح شهيتي للتفاعل معه بتعرية بعض أسباب هذه المعضلة التي باتت تضر بصحة تداولنا اللغوي العربي الفصيح .
فالواقع ان الامر حين يسند الى غير أهله فالنتيجة تكون وبالا على الأهل جميعا بمعنى ان القائمين على وضع برامج وكتب مدرسية لتعليم النشئ اللغة العربية ليس لهم جرأة في الاجتهاد والبحث عن اليات جديدة لتعليم اللغة برغبة وعشق، وأحيانا يغيب عن عقولهم بعد النظر، بسبب ضعف تكوينهم ومحدودية اظطلاعهم ، فينقلون نقلا بعض المناهج الدراسية المستنسخة من تحارب غربية وينزلونها تنزيلا على واقع مخالف
. والمعضلة الثانية ان مدرس اللغة العربية نفسه تنقصه فنية التدريس او ربما احيانا نقص في التكوين ، فينصاع كالعبد تطبيقا لاوامر منهاج بليد، يتحول معه درس قواعد اللغة مثلا الى قوالب جافةومملة تصيب المتعلم بالنفور ،وأحيانا بكره المادة ومدرسها، خاصة اذا كان مدرس اللغة نفسه لا يفطن م لغائية ما يدرس مثلا له جهل بدلالة الحرف ووجوه التركيب وفلسفة الجملة الفعلية والاسمية ، ولا يربط مادة التعلم بمقامات التواصل ..فأمام هذا النقص في الفهم والإدراك السليم لجوهر المادة التي يدرسها يراه المتعلم قد تحول الى الة صماء وقاهرة تطرح قواعد محفوظة دون قدرة على إمتاع هذا المتعلم بأهدافها وغاياتها التعبيرية والتواصلية ، وحين يتلقى المتعلم مثل هذه الطلاسم غير المفهومة فحتما سيحفظها قهرا لينساها لا حقا وتبدأ عملية اللحن في اللغة .
والمعضلة التالثة ان المتعلم يجد نفسه ،خارج التعلم اما في الاسرة او الشارع، محاطا بلهجات متعددة وأحيانا لغات اجنبية كالفرنسية والإنجليزية ، ويكون حيّز التواصل بها اكثر ، مما يضعف ويشتت تلك المكتسبات الضعيفة أصلا ،
كما ان وعي الأسر باهمية اللغة العربية الام قد تراجع وتناقص اما م اكتساح لغات العولمة وعلى رأسها الانجليزية
اعتقد ان كل هذه الأسباب مع غيرها قد ساهمت في شيوع هذا النوع من التواصل اللغوي الركيك والضعيف واللقيط . والحل كامن في الوقوف عند هذه الاسباب والمعضلات نفسها والتي أشرت اليها سابقا وذلك من خلال :
- حسن إعداد البرامج والمناهج الهادفة والميسرة للتعليم،
- الاهتمام بإعداد مدرس العربية أعدادا فيه عشق للعربية وتكوين عميق وبيداغوجية هادفة ،
-الزيادة في التوعية بمكانة واهمية اللغة الام.
-والاهم من هذا كله تشجيع الأسر ابناءها على حفظ كتاب الله، او ما تيسر منه في مرحلة ما قبل التمدرس ،حتى يصبح اللسان طيعا على النطق الفصيح للغتنا العربية الجميلة .

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا