لماذا أُحِبُّ الشتاءَ وأَمْقُتُ الصيفَ؟! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

لماذا أُحِبُّ الشتاءَ وأَمْقُتُ الصيفَ؟!

  نشر في 10 يناير 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

(1)

ضربتُ موعدًا لصديقي كي نتقابل في مقهانا المفضل مساء يومٍ من أيام يناير الشتوية، قال لي بعد السلام والعناق في كلماتٍ خَرَجتْ مرتعشةٍ من بين أسنانه التي تصطك ببعضها مِن أثر البَرْد: "سَامَحَكَ الله! .. ألمْ تَجِدْ يومًا أبردَ مِن هذا اليوم كي نتقابل فيه؟! كم أكره الشتاء وبَرْده، ولولا أنك تَعِزُّ عليَّ ولم أرَكَ منذ مدةٍ طويلةٍ لأجَّلْتُ هذا اللقاء إلى الصيف الذي أعشقه". طلبتُ مِن النادل أنْ يُحْضِرَ لنا مشروبين ساخنين من "السَّحْلَب"، والْتَفَتُّ إلى صديقي وقلتُ له وأنا أفْرُكُ كَفَّيَّ وأنفخُ فيهما طلبًا للدفء: "أمَّا أنا يا صديقي، فأعشقُ الشتاءَ، وأتمنى لو كان العام كله شتاءً".

(2)

أُحِبُّ الشتاء، وأتعجب كثيرًا مِن أولئك الذين يُفَضِّلُون الصيف عليه .. لا أطيق الصيف وحَرَّه، ولا أتحمل العَرَقَ الذي يحيط بي أينما ذهبت .. تؤذيني شمس الصيف التي تجبرني أثناء عملي على الوقوف تحت أشعتها الحارقة معظم ساعات النهار ما جعل بشرتي تتحول بمرور السنوات من اللون الأبيض إلى اللون البني .. يستحيل أن أسير أثناء النهار دون أن أرتدي نظارةً سوداء، لا ليستْ "الألاطة" هي السبب إنْ كنتَ قد فَكَّرْتَ في ذلك، فبدون النظارة السوداء لا أقْدِرُ على فتح عينيَّ إلا بمقدارٍ ضئيلٍ يسمح بالكاد برؤية الأشياء مِن حولي، فأبدو للناظر كأني مصابٌ بالعمش .. في الصيف يَكثرُ الذباب السمج الذي لا يَجِدُ متعته إلا في مضايقتك عندما يحطُّ على وجهك ويَزِنُّ في أذنيك، لا يُجْدِي معه "هَشٌّ" ولا "نَشٌّ"، ونادرًا ما تُصيبه إحدى ضرباتك الطائشة في مقتلٍ.

(3)

أُحِبُّ الشتاء رغم برودة نُهُرِه وصقيع لياليه، فإذا ما استثنينا لحظة الاستيقاظ المرعبة واتخاذ القرار الشجاع بالخروج مِن تحت دفء "البطانية" للذهاب إلى العمل .. وإذا ما استثنينا مشهد الطين الذي يغطي شوارع مدينتي لأيامٍ فتغرق في شبر ماءٍ إذا ما أمطرت السماء ولو لدقائقَ معدودةٍ .. وإذا ما استثنينا زياراتي المتكررة لدورة المياه كل بضع دقائقَ كي أُفْرِغَ مثانتي مِن ذلك المشروب الساخن الذي انتهيت لتوِّي مِن شُرْبِهِ .. وإذا ما استثنينا نزلات البَرْدِ التي لا مفر مِن الإصابة بها مهما اتخذتُ مِن تدابيرَ واحتياطاتٍ أمنيةٍ لِتَجَنُّبِهَا .. إذا ما استثنينا كل ما سبق واستطعنا أنْ نجتازه أو نَغُضَّ الطرف عنه، فإنَّ ما دون ذلك يستحق أنْ نعشقَ الشتاء مِن أجله.

(4)

في الصيف يحب الناس أنْ يَتَوَجَّهُوا إلى مدينة الإسكندرية مِن كل حَدبٍ وصَوبٍ، فيُحَوِّلُوا بزحامهم وسلوكاتهم جَمال تلك اللؤلؤة إلى مكانٍ لا يُطاق، ويجعلوا مِن بَحرها الساحر آخرَ مكانٍ تتمنى أنْ تتواجدَ فيه كي تغسلَ همومك وآلامك، لذلك لا أحبُّ الذهاب إلى الإسكندرية في الصيف .. أحبُّ زيارتها في الشتاء كي أستمتع بالسير وحدي على كورنيشها بعد نوةٍ شتويةٍ غاضبةٍ، وقتها أشعرُ بأنَّ الإسكندرية تكونُ مِلكي وحدي، عكس الصيف الذي تكونَ فيه مِلكًا لباقي الناس.

وكما هو الحال مع الإسكندرية، فإنني لا أحب مدينتي - القاهرة - في الصيف .. أشعرُ وكأن كل سكانها يهربون إلى الشوارع فيملأونها طوال ساعات اليوم، أشعرُ أنني غريبٌ عن مدينتي التي تزدحم بقاطنيها وزائريها .. عكس الشتاء الذي أستمتعُ فيه بالشوارع الخالية وجَمال المباني القديمة في وسط البلد بعد أنْ تغسلها أمطارُ الشتاء فتجعلَ الناس يختبئون داخل منازلهم.

(5)

في الشتاء تطولُ الليالي ومعها يحلو السهر، فتشعرَ بعد انتهاء العمل وكأن يومًا جديدًا في انتظارك بعد العودة إلى المنزل، عكس الصيف الذي يطول نهاره وتقصر ساعات ليله ما يجعلك تشعر بأنَّ اليوم الصيفي لا بركة فيه.

في الشتاء قد يمرُّ أسبوعٌ كاملٌ قبل أنْ أتذكرَ أنني لم أشرب شربةَ ماءٍ واحدةً، بينما في الصيف مهما شربتُ مِن أكواب المياه المثلجة فدائمًا ما يأتي العطش سريعًأ وكأنني لم أشرب شيئًا.

في الشتاء ما أجمل أنْ تُمْسِكَ بكوب المشروب الساخن الذي تحبه بكلتا يديك دون أنْ تتأذى مِن سخونته التي تَنْقُلُ إلى جسدك دفئًا لذيذًا مع كل رشفةٍ، أتحداك إنْ كُنتَ تستشعر نفس اللذة وأنت تشرب نفس المشروب في الصيف.

في الشتاء يكفيك أنْ ترتدي عدة طبقاتٍ مِن الملابس الثقيلة كي تتقي لسعة برد الشتاء، عكس الصيف الذي تتمنى لو تتحرر مِن كل ما ترتديه مِن ملابسَ خفيفةٍ كي تهربَ مِن إحساس الحر الخانق الممتزج بالعرق البغيض.

في الشتاء قد لا تحتاج إلى الاستحمام إلا مرةً واحدةً كل أسبوعٍ، بينما في الصيف قد لا يكفيك أنْ تستحم ثلاث مراتٍ كل يومٍ، فغالبًا ما تَجِدُ جسدك قد تصبب عرقًا قبل أن تغادر حوض الاستحمام، ما يجعلك تعيد التفكير قبل الخروج من الحمام إنْ كنتَ مضطرًا إلى إعادة الاستحمام مرةً أخرى.

في الشتاء يحلو المكوث في المنزل مع الأسرة والأبناء لاكتساب الدفء من "اللَّمَّة"، حبذا لو الْتَفَّ الجميع أسفل "بطانيةٍ" سميكةٍ أمام التلفاز لمشاهدة فيلمٍ أو مسرحيةٍ أو برنامج فكاهي مع احتساء المشروبات الساخنة التي تُعَزِّزُ الشعور بالدفء.

(6)

في أغانينا العربية، لم يتغنَّ المطربون للصيف مثلما تغنَّوا للشتاء .. فباستثناء أغنية فيروز (حَبَّيْتَكْ بالصيف حَبَّيْتَكْ بالشِتِي) – كلمات وألحان الأخوين رحباني - والتي ساوت فيها بين الفصلين، نَجِدُ أنَّ للشتاء نصيبَ الأسد في العديد من الأغاني الأخرى والتي رُجِّحَتْ فيها كفةُ الشتاء على الصيف .. فمَنْ ذا الذي يمكنُ أنْ ينسى أغنية الراحل أحمد منيب (الدنيا برد) التي لَحَّنَهَا بنفسه وكَتبَ كلماتها شاعر العامية فؤاد حداد؟


ومن الأغاني الأخرى العديدة التي تغنَّتْ بالشتاء، أذكر منها على سبيل المثال:


أغنية (شتا) .. غناء: محمد منير – كلمات: كوثر مصطفى – ألحان: حسين جاسر


أغنية (برَّه الشبابيك) .. غناء: محمد منير – كلمات: عبد الرحمن الأبنودي – ألحان: كمال الطويل


أغنية (رِجْعِت الشتوية) .. غناء: فيروز – كلمات وألحان: الأخوان رحباني


أغنية (لما الشتا يدق البيبان) .. غناء: علي الحجار – كلمات: إبراهيم عبد الفتاح – ألحان: أحمد الحجار


أغنية (أواخر الشتا) .. غناء: إليسا – كلمات: نادر عبد الله – ألحان: تامر علي


أغنية (قصة شتا) .. غناء: دنيا سمير غانم – كلمات: أمير طعيمة – ألحان: هشام جمال


أغنية (آيس كريم في جليم) .. غناء: عمرو دياب – كلمات: مدحت العدل – ألحان: عمرو دياب


أغنية (جيت يا شتا) .. غناء: حميد الشاعري – كلمات: حسن الصيد – ألحان: حميد الشاعري


أغنية (حبيبتي والمطر) .. غناء: كاظم الساهر – كلمات: نزار قباني – ألحان: كاظم الساهر


أغنية (شَتِّي يا دِنْيِي) .. غناء: فيروز – كلمات وألحان: الأخوان رحباني


أغنية (تلج تلج) .. غناء: فيروز – كلمات وألحان: الأخوان رحباني


أغنية (بليل وشِتِي) .. غناء: فيروز – كلمات: جوزيف حرب – ألحان: فيلمون وهبي


أغنية (عصفور في ليل المطر) .. غناء: حنان ماضي – كلمات: جمال الشاعر – ألحان: ياسر عبد الرحمن


(7)

في القرآن الكريم، ما دلالة تقديم الشتاء على الصيف في سورة قريش؟

يقول د. فاضل السامرائى أستاذ مادة النحو والتعبير القرآني في جامعة الشارقة: قال تعالى في سورة قريش:(لإيلافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ {4}‏). المعروف أنَّ حاجة الإنسان للطعام في الشتاء أكثر مِن الصيف، والخوف في الصيف أكثر لأنه فيه يكثر قُطّاع الطرق والزواحف لذا قَدَّم تعالى الشتاء والخوف على الصيف والجوع.

(8)

يُذَكِّرُنِي الشتاءُ بأيام الطفولة الغضة عندما كُنتُ أجلس بجوار جَدّي أثناء إعداده للشاي في ذلك البَرَّاد النحاسي الأصفر وهو يغلي فوق موقد الكيروسين "وابور الجاز" .. لم أكن أجلس بجواره مِن أجل شرب الشاي - فقد كان الشاي مُحَرَّمًا علينا نحن الصغار في ذلك الزمان – لكنني كنتُ أُحبُّ الجلوس بجواره طلبًا للدفء وأيضًا كي أراه وهو "يُعَمِّر الوابور" عدة مراتٍ عن طريق كبَّاسٍ جانبي حتى تشتدَّ نيرانه وتستقرَ في صوتٍ مميزٍ لم تَنْسَهُ أذناي رغم انقراض هذا الاختراع المصري العبقري منذ أكثر من عشرين عامًا.

يُذَكِّرُنِي الشتاءُ بطفولتي البريئة عندما كنتُ أخرجُ إلى المدرسة مع نسمات الصباح الأولى وأفرحُ بذلك البخار الذي يخرجُ مِن فمي وأنفي مع كل زفيرٍ من أنفاسي، وأظل أُخْرِجُه مِن فمي بكثافةٍ شاعرًأ أنني تنينٌ يَنْفُث اللهب مِن فمه.

يُذَكِّرُنِي الشتاءُ بطفولتي السعيدة الخالية من أي همومٍ أو مسئولياتٍ عندما كانت إحدى هواياتي المفضلة هي الركض أثناء تساقط المطر والقفز وسط بِرَكِ المياه والطين مثل فُرْقُع لوز منتقيًا في خفةٍ ومهارةٍ أقل البقع تجميعًا للمياه كي تكون موضعًا لقدمي .. صحيحٌ أنني كنتُ مُدركًا تمامًا لتَبِعَات هذه الفِعلة مِن "علقةٍ" ساخنةٍ تنتظرني مِن أمي عقابًا لي على ملابسي التي لن يُجْدِي معها نفعًأ أقوى مساحيق الغسيل ولن تَصْلُحَ للارتداء مرةً أخرى، لكن اللذة والإثارة التي كانت تجتاحني أثناء تلك المغامرة كانت أقوى مِن أي عقابٍ.

(9)

بعد أنْ انتهيتُ مِن احتساء آخرَ رشفةٍ مِن مشروب "السحلب" اللذيذ، قلتُ لصديقي وأنا أضمُّ ياقة معطفي الثقيل إلى رقبتي: "هل عَرَفْتَ الآن يا صديقي لماذا أحبُّ الشتاء وأمقتُ الصيف" ؟!


  • 7

   نشر في 10 يناير 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

مريم منذ 6 سنة
كنت أحب الشتاء جدا ....لكن مع مقالك صرت أحب الشتاء جدا جدا جدا.
روووعة الوصف وقمة الاحساس.....يالجمال قلمك وفكرك.شكرا لك اخى.
1
Mohamed Ahmed منذ 7 سنة
مقال أكثر من رائع خاصة واني قد استمتعت بقرائته تحت بطانية سميكة
1
كعادتك مبدع إسلام، لفصل الشتاء سحر خاص، و ما أحبه أكثر هو النشاط و الحيوية التي يمتعنا بها الشتاء عن باقي الفصول، هو فعلا فصل العمل و الإنتاجية، و الحصول على النوم الكافي :) للاستيقاظ بطاقة اليوم الموالي
1
مقال رائع جدا .. استمتعت كثيرا بقراءاته خاصّة وأنّه يعبّر عن نفسي المحبّة للشتاء كما هو الحال بالنسبة لك
إحساس مشترك .. أفضّل الشتاء على الصيف بل أعتبرها ميزة يحقّ الافتخار بها.
1
بسمة منذ 7 سنة
مقالة رائعة .. استمتعت في قرائتها ،
لدرجة انني شعرت بنفحة باردة تهب من مقالك لشدة إندماجي بها .
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا