كل منا أصبح يعي معنى الألم ما دام يعيش على هذا الكوكب في هذه المرحلة الدنيوية ، كلنا تعثرنا و ثقبنا في منطقة ما في صدورنا و أن لم يشعر بنا أحد ، و الحديث عن الألم البشري يطول جداً ولست أقف اليوم بصدده ، ولكن اعلموا بطريقة أو بأخرى يستطيع عقلي أن يستوعب الألم -ولو بدرجة ضئيلة- الذي يتعرض له الرجال والنساء حد الصلب و الحرق و حتى أقصى درجات الألم حسبما يراه العلم وحسبما يراه الشعور ، ولكني أحمل عقلاً عاجزاً عن الحركة عندما نتحدث عن ألم الطفل ، فتراني اشيح بوجهي عن الحياة وأترك روحي تنزلق في أعماق الا شيء وتغرق في أودية النسيان لكي لا أتصور و لا أشعر و لا أعي ولو دون سابق رغبة ، فالطفل أصبح قضية وميدان حرب وعلة هجوم يسيطرون علي كيفما و أينما حييت ، لذلك سيتكرر وقوفي على منبر الضمير ، قضية الألم ، تصنيف الطفل ، معاناة رقم (....) ، اليوم فقط سأذكره هو بعينه الذي يشارك المطر الموت على الطرقات ، الذي يشارك الشمس لعنة الضيق ، الذي يشيخ كل يوم ألف مرة فهو أبو نفسه وأمه و هو العائل و المربي ، قبل كل هذا سأذكر لن يكون الحديث عن الفقر ومسبباته وأضراره وضحاياه ولا أصب لومي على الاباء و الأمهات متناسية ظروف البيئة المحيطة ومتاعبهم والآمهم و معاناتهم ، أنا فقط أتحدث عن الرضيع الذي صقعت مستقبلاته الحسية الرقيقة بأبواق السيارات وكأنها أول صرخة من الحياة توقظه على واقعها المرير ، عن الطفل الذي أعتاد مقابلة الإيماءات المختلفة الملل .. الاستياء .. الكره . التقزز ، التي تقابله كل يوم دون أن يعي مغزاها وإنما فقط شعور داخلي بالضيق يهدد روحه البريئة ، جل الذي يعيه أنه ولد مطيع يتبع وصايا من هم قدوته في الحياة ، فطرته تهديه إلى أن الكفاح و الجد سيجعله الرابح في النهاية وأنه سينتصر يوماً على اقرانه من الصغار المدللين ، تمر الأيام ويكبر و يفاجئ بنفسه وإذا هو عالق في دهليز طويل و مظلم منذ صغره ، وأنه أصبح يأكل فتات الكعكة الذي يتساقط من اولئك الصغار المرفّهين ، الذين كبروا بأسماء مزينة بالألقاب وهو أصبح يكاد يتلاشى في هذا العالم الضخم ، وإن كان هو في حقيقة الأمر يفوقهم فطنة و ذكاء وجدية و عمل ، فتراه يعيش ناغم على هذه الحياه مقضوم القلب أنهكت روحه المقارنات ، هذا الطفل هو الضحية المباشرة لوالديه وإن كانوا هم أنفسهم ضحايا أيضاً ، أشير بأصبع الاتهام إلى أولئك الذي يضيفون للمجتمع عشرات الأفواه في حين لا يملكون إلا ما يعيل واحد منها تقسم على أولئك جميعهم ، مستنيرين بقوله تعالى (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) ، ليس هناك ضرر إذا كنت تنجب العشرات و تبذل مجهود يكفيهم جميعاً حتى وأن أستلزم الأمر حفر الصخور ، أما أنك تنجب ما تشتهي وتعمل بقدر ما تشتهي فهذا ظلم ضحيته صغارك الذين تودعهم الطرقات ، لا ضير أن تنجبوا أطفال فقراء فالفقر لا يعيب لكن اضمنوا لهم على الأقل حق المأكل والملبس و التعليم و وقت الطفولة ، ليعيشوا تحت مسمى " أطفال " و ليس " حطام " ، لكن همي اليوم ليس هو هؤلاء الاباء ولا استطيع أن أجزم كيف سيكون رد فعلهم عندما يصل إليهم خطابي بطريقة أو بأخرى ، ربما سيتألم بعضهم ويشعر بوخز في الضمير ، وربما آخرون سينعتونني بالمترفة التي تغرق في عالم الوهم والكلمات ولم تذق بدورها يوماً مرارة الفقر ، وربما آخرون جعلتهم الظروف القاسية قطعة كبيرة من الا مبالاة فقط سيستمرون كأن شيء لم يكن ، إنني أعتصر ألم عليهم وسأذكرهم يوماً ما كضحايا عندما أستضيف قاتلهم الأكبر " الفقر " ، لكن اليوم الطفل قضيتي ولن أرحم كائن كان يسرق أعمارهم و براءتهم ويصنع منهم بؤساء اكتسبوا صبغة الأرصفة والأزقة ، وهذا ما يحدث تحت الظروف القاهرة فماذا تقول عزيزي القارئ عندما يتبادر في ذهنك بعض الاباء الذين اودعوا أطفالهم في الشوارع وجردوهم طفولتهم عن عبث ، فلا فقر و لا عوز إلا من الإنسانية و الضمير ، بأيديهم صنعوا لصوص اليوم على الطرقات و خلف الطاولات العريضة في الغد ، خطابي اليوم ليس لهم بل هو للعامة ، فلو تعلمون أننا نقدم لهذه النار الظروف الملائمة لكي تدوم وتتصاعد ، نعم إننا نساعد هؤلاء في تحويل طفولة صغارهم إلا ضياع ، نعطيهم ما تجود به جيوبنا ونظن بذلك أننا نرفق بهم ونحسن إليهم ، وفي نهاية النهار يقف طفل شائخ يسيل لعاب كافليه أمام ما جنته يدان صغيرتان في طريقها للتجعد ، ومن ثم قد يتحول فعلهم هذا إلى عادة متناسين السبب الحقيقي الذي دفعهم للإتجار بطفولة صغارهم ! ، وفي الختام أقول رسالتي هذه أشبه بملصق التحذير من التدخين على علبة السجائر وإن كنت أتمنى أن لا تواجه مثل مصيره بالتجاهل .