الترابط والإندماج في ديوان رحيل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الترابط والإندماج في ديوان رحيل

بقلم /حسن غريب أحمد

  نشر في 22 شتنبر 2020 .

ثيمات الترابط والاندماج وعتبات الولوج إلى مدلولات النص في ديوان (رحيل) للشاعرة ثناء شلش

ثيمات الترابط والاندماج

وعتبات الولوج إلى مدلولات النص

في

ديوان (رحيل)

للشاعرة : ثناء شلش

بقلم : حسن غريب

لعل مما يثير الإعجاب في ديوان ” رحيل” الصادر عن جماعة الملتقى العربي للدراسات والنشر2014م لــلشاعرة ثناء شلش لهو قدرة الشاعرة على النزعة العاطفية والنزعة الاجتماعية و النزعة الدينية و مخاطبة الخالق واستخدام “التضرع والدعاء ” كمعادل موضوعي للإنسان وللحياة وللوطن وللحبيب وتكتشف ذلك من أول وهلة تسمع عن الديوان فالعنوان الذي هو أول عتبات الولوج إلى النص يخبرك بأن الرحيل ذلك الواقع المقدر والمفترض و الجميل له إرهاصات ثم ثيمة ” التعويض ” Compensation ” كأول ثيمة في الديوان يمكن الحديث عنها.·

,والحب والموت والتضرع والرجاء لخالق العباد و ثيمة التعويض النفسي في الرحيل التعويض يلخص الحالة النفسية للشاعرة ويعني التعويض إحلال شيء من الموروث الديني والأسري ، أو فقدان الأحبة ، فالوجود الثلاث محل بني جنس الإنسان أو جزء منهم، ومخاطبة الخالق بالتضرع ، أو تذكير أحدها يندمج فيه ثلاثة مفاهيم ودلالات أولها استخدام هذا الموجود كمعادل موضوعي ثم التعويض به وأخيراً بعث الروح فيه وهو ما تميز به شعراء المهجر من الرومانتيكيين وسمي فيما بعد ب” الإحيائية ” وعندما نتحدث عن أحد هذه الثلاث من المفاهيم في ديوان ثناء شلش فنحن نتحدث بالضرورة وتتداعى لنا الثلاث مندمجة ومترابطة..

يبدأ ذكر الرحيل في ديوان ” رحيل” بالإهداء لوالدة الشاعرة ثم إلى ولدها الذي لون أحلامها بنغم الأوتار، ثم نجدها في أول قصيدة بالديوان لأني أحبك” ” :

” لأني أحبك سوف أطير بكل مجال

أعانق شمس الضحى والآصال

ولا لن أحط الرحال إلا بقربك

لأني أحبك” (ص8).

وأيضا في ذات القصيدة :

لأني أحبك لمست النجوم

وأضحت سمائي بغير غيوم

وحطم صدري جبال الهموم

ليخلو لحبك ..لأني أحبك

لأني أحبك عشقت الزهور

عشقت الرمال وموج البحور

وأرسلت أنشودتي للطيور

لتشدو بحبك .. لأني أحبك

(ص9)

وفي قصيدة “مناجاة(ص12) تذكر الشاعرة :

يا خالقي ورجائي ..أعد إلي صفائي

وأجرني من أحزاني ..ومن هموم بلائي

فالصبر ضاق بصبري ..مل الشقاء شقائي

والدمع سال ليجري ..شق السكون دعائي

ثم قصيدة” ارحل” ص 13 )تخاطب الشاعرة الحبيب وتناديه أن يرحل عنها فقلبها لم يعد له متسعا وليس وطنا و فيها الروح لم تعد السكنى وتخاطبه وتناجيه مناجاة الحيارى،لأن بابها سوف توصده ولن ترى بعدها دمعا ولا حزنا .

ثم جد قصيدة ” عودة القصيد” (ص 16) لكنها هنا تتماهى في قصيدة الفصحى وتصبح معادلة موضوعية للذات ” الشاعر / القصيدة “، لأنه ماعاد بالقصيد رجاله وظن الكثر الردئ من الكلام جميلا.

كما نجد في قصيدة ” رثاء” و” إلى والدي” معادلا موضوعيا للجمال المخيف…!!؟

من علماء الجمال عمانوئيل قانط ، صنف طبقات الجمال ومراحله جانحاً بالنفسي مجنح الرياضي ” الحلو، الحسن، الجميل، الجليل ” الأول يلذ والثاني يبهج والثالث يسر والأخير مخيف…

كيف يصبح الجميل مخيفاً ؟

يقول جوته : ” ربما استطعنا أن نتحمل الجمال الذي يرعبنا بسموه وأبعاده..”

عندما نتأمل الجميل نفرح له ونتمنى امتلاكه لكنه عندما يكون كثيفا متعددا متنوعا فإنه يشعرنا بالفوات والعجز عن اللحاق به فنأسى لأن الزمن الذي هو عنوان الفناء سيمحو الفرصة التي نعاود

بها الجمال الجليل ونشعر أن بيننا وبينه هوّة الموت فنرتعد فرقاً…

التعويض تفرضه دائماً العادات والتقاليد والبيئة والثقافة والظروف المحيطة عموماً بلا استثناء، ولذلك فإن هذا التناقض هو بمعنى الاختلاف والخروج عن القاعدة المتمثلة في المجتمع وكذلك في الفكر والفن، ولكن ما حيلة الشاعرة في المجتمعات الذكورية ؟؟!!

إن التعويض هو تميز عن الآخرين والتعويض هنا قد يكون في سياق العلاقات الاجتماعية، مثال ذلك الشنفرى وهو الشاعر الصعلوك صاحب لامية العرب والذي استعاض بحياة البراري والصحراء والعيش مع الحيوانات التي وجد الأمن وأحس بالأُنس معها ففضلها على محبو بته لقاء ظلمهما وساديتها ، وشأنه في ذلك شأن بقية الشعراء الصعاليك الذين كان يتزعمهم عروة بن الورد، يقول الشنفرى :

” ولي دونكم أهلون سيدٌ عملّسٌ / وأرقط زهلولٌ وعرفاء جيألُ

هم الأهل لا مستودع السر ذائعٌ لديهم / ولا الجاني بما جرّ يُخذلُ )

• وهاهو أيضاً يضرب لنا أروع وأنبل المشاعر الإنسانية وهو يوصي أم عامر أنثى الضبع حين قال :

” لا تقبروني إن قبري مُحرمٌ عليكم / ولكن أبشري أم عامرِ

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري / وغودر عند الملتقى أم سائري “

ومن النماذج أيضاً الأحمر السعدي أو الأحيمر السعدي أحد قُطّاع الطُرق في العصر الأموي وكان لصاً فاتكاً، يقول :

” عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى / وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ”

– نجد أيضا وفي مواضع أخرى في ديوان ” رحيل” بعث الروح في التعلق بالخالق وجفاء الحبيب وتذكيره وإحلاله محل الحبيب كبديل أيضا يفرضه الحصار في المجتمع الذكوري والمعنى يتضح من خلال السياق وأيضاً تبعاً لمقتضى الحال فها هو المتنبي يؤنث القوة ويعوض بها عن المرأة، ومثله ابن الرومي الذي يؤنث الطبيعة، والنواسي الذي يؤنث الخمرة، وجبران خليل جبران الذي يستعيض بالعوالم الافتراضية والشخصيات الأنثوية مثل سلمى وغيرها، مما نجده في ثنايا مؤلفاته، كانت كلها تعويضية افتراضية لا وجود لها إلا في عالمه المثالي والافتراضي الذي صنعهُ بمخيلتهِ وثقافتهِ وإنسانيته الراقية، وتعبيراً عن حزنهِ وغربتهِ النفسية والمكانية أو”المكانفسية ” التي كانت ترافقهُ أينما ذهب، كذلك قد يكون هذا التعويض تعبيراً عن أعمق مطلب وحاجة لدى الإنسان ” إثبات الذات وتحقيق الوجود ” والتي تعتبر الشجرة التي تتفرع منها كل الأسباب الأخرى لكنها في الأخير تنتمي إليها.

– كذلك نجد في “رحيل” ثناء شلش ، عوض هذا التعويض تجسيداً لبحث مفقود عن غايات سامية في عالمٍ أهم سماته ” النقص ” والإحيائيين في الرومانتيكية يعبرون بوضوح شديد عن هذا..

كذلك نجده في مواضع أخرى يشبه عقدة “بجماليون ” وهو النحات الذي صنع تمثالاً ثم عشقهُ، فهي تستطيع التوبة عن الحبيب والبعد عنه نهائيا في سياقات حياتها العامة والخاصة والواقع المفترض موت الأب والأخ والشهيد أيضا، ونجده أيضا هروباً من الآخرين وظلمهم..

إننا نجد في ثنايا ديوان ” رحيل” تعويض راقٍ صنعته شاعرتنا الجميلة ثناء شلش بخيالهِا العميق رغم أن هذا أول ديوان لها ، إل أنها قد سمت وعلت بطموحاتهِا ورقي مشاعرهِا ورهافة أحاسيسهِا وتعاظم هم الإنسان بداخلهِا، هذا جميعه بالإضافة إلى المكونات الثقافية والظروف المحيطة والتراكمات المعرفية التي ترسبت في وعيها، ذلك الماضي البعيد الممتد فيها وهذا الحاضر الذي تسرب إليها وأيضاً المستقبل الذي يتراءى لها، كل ذلك يجعلها تتعارض بالطبيعة مع ضيق العالم المثالي ، و المادي، واستشراء عالم الضلال، ما سوغ لها التعبير بكافة وسائل الإبداع والفن عن أشياء وتجارب حتما عاشتها حقيقةً، شأنها شأن أهل الفن والإبداع الذين هم بدون هذه العوالم التعويضية الافتراضية والحقيقية لايساوون في ميزان الفن شيء له يميزهم.

ثيمة الغربة في (رحيل)

وتأتي الثيمة الثانية في ديوان (رحيل )يمكن ملاحظتها وفي حالة ترابط مع الثيمة الأولى وبالحديث عنها يمكن ذكر قول الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي في كتابهِ أمة من المهاجرين عن الغربة وأسبابها أن للهجرة أنماط، فتكون لأسباب اقتصادية وتكون هروباً من اضطهاد ديني، وتكون لجوءًا من استبداد سياسي.

وفي كل تلك الأنماط تسمى الهجرة غربة، ولهذه الأخيرة سيكولوجيتها وطبيعتها الخاصة، فهناك الغربة المكانية وتعني الانتقال والعيش في وطن آخر، وأسبابها قد ذكرت في الأنماط التي عددها كنيدي في كتابهِ والمذكورة آنفاً.

في ديوان رحيل للشاعرة ثناء شلش نجد أن هاجس الغربة يسكن الشاعرة ولكن أشكال الشوق والحنين في القصائد تختلف من موضع إلى موضع فحيناً تعبر الشاعرة عن غربتها بالحنين والشوق إلى الابن، تقول في قصيدة ” إلى ولدي”(ص24) ” :

ولدي الحبيب ملأت كل حياتي .. وجعلتني أخشى قدوم مماتي/ أرجو الحياة لأجل عينيك التي من نورها وضيائها مشكاتي/ وكنت قبلك لو أتاني الموت لا أرجو طبيبا لا أريد نجاتي / كانت حياتي كالجحيم أتيتها فغدت بفضلك روضة الجنات / صحراء قاحلة فجاء ربيعها وتفتحت أكمامها زهراتي )) / ص 25

ونلاحظ أن عشق نجلها و المكانية والنفسية تسيطر على روح الشاعرة وتتحكم في سياق المقاطع السابقة.. ونلاحظ أن الشاعرة الأم ليست تلك العلاقة المادية التي تربط بين الشاعرة وبين نجلها ولكنه رمز يتسع ليصبح دلالة الشوق إلى أمها الكبرى ” الوطن “.. ويعبر الفيلسوف اليوناني جالينوس عن ذلك بقوله : ” يتراوح العليل بنسيم وطنهِ، كما تتراوح الأرض الجدبة بعليل المطر “، وهاهو برومثيوس يضرب أروع الأمثلة عن ذلك حين كان يتلقى الضربات في سماء الأولب فيهبط إلى أرض وطنه يتزود منها نسيماً وماءً وشعاعاً، ثم يعود ليتغلب على خصومهِ الآلهة المناوئين.. ويذهب الجاحظ إلى أبعد من هذا حول فكرة النسيمية الوطنية فيقول : ” كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم احتفن معه حفنةً من تراب وطنهِ يضعها في جرابٍ لهُ ليتداوى بها..!!”

رغم ذلك فالغربة المكانية هي غربة اختيارية، في الأغلب، إلا إن تجاوزت حدود الضغوط النفسية من أنماط الهجرة الذاتية.. وقد عبرت الشاعرة عن ذلك بقولها في القصيدة السابقة : ” واراك في العمران خير مهندس ليخطط الأحياء والطرقات” “.

في موضع آخر من الديوان تفرد الشاعرة قصيدة تعبر فيها عن وحشة الغربة وما تخلفه في الذات عنونتها بـ ” شباب النيل “، تقول :

(( يا شباب النيل / يا أيها الحر النبيل / يامن قهرت المستحيل / شكرا لكم شكرا لكم / سيسجل التاريخ هذا النصر / جيلا بعد جيل / يا ثورة بيضاء / خطت سطور المجد في أعلى سماء / قهرت ظلام الليل جاءت بالضياء / يا أيها الشرفاء / علمتموا الدنيا الكرامة والإباء”(ص43).

ثمة نمط آخر من الغربة يسمى الغربة النفسية، وهي غربة صعبة إذ يشعر صاحبها وهو بين أهلهِ بغربتهِ عنهم، فتبدو عليه أعراض الاكتئاب، ويدخل في سياق هذه الغربة ما يسمى في النفسانيات بالتعويض compensation أي مثلما نقول بالبدائل تستمر الحياة، ومن الأمثلة على ذلك الشاعر الشنفرى قديماً والذي يقول معبراً عن هذا :

“ولي دونكم أهلون سيدٌ عملسٌ / وأرقط زهلولٌ وعرفاء جيألُ “

فاستعاض بالحيوانات عن قومهِ وأهلهِ الذين شعر بغربتهِ النفسية بينهم، ومثله الأحمر السعدي، أحد قطاع الطرق في العصر الأموي وكان لصاً فاتكاً، يقول معبراً عن غربتهِ تلك :

” عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى / وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ ” والنماذج في التاريخ على هذه الغربة كثيرة خصوصاً من شريحة الأدباء والشعراء والفنانين ولكن لا يتسع المقام لذكرها، لكن هذه الغربة ليست اختيارية ولكنها جبرية، تفرضها وتجبر عليها ضغوط كثيرة كتقاليد وتباينات ثقافية وشعورية لا يدركها كثير من الناس..

ونجد هذا التعويض ذاته في التفاصيل التي تقولها الشاعرة في قصيدة”;كيف أقول لك الوداع؟ “ولكن بما يناسب ثقافتها وبما يناسب الأشكال الثقافية التي تحيط بها وتفقهها فتقول : ” ;كيف أقول لك الوداع مكة خير البقاع / يأبى اللسان يقولها والقلب يرفض الانصياع / لو عشت ضعف العمر بل أضعافه دون انقطاع / فوق ثراك فما ثراك سئمت ولا تمنيت الوداع / كيف أقول الوداع ؟”(ص 52)

أما وعن النمط الثالث من أنماط الغربة وأكثرها مدعاةً للأسى فهي الغربة التي تتكون من النمطين السابقين النفسية والمكانية ” المكانفسية “، وهي ما بين الجبرية من الناحية النفسية والاختيارية من الناحية المكانية، ومن أمثلتها من الشعراء جبران خليل جبران، الذي اضطرته هجرته وغربته المكانفسية إلى صنع عوالم خيالية ليس لها وجود إلا في ذهنهِ والتي نسج عنها أجمل الكلام والقصص والحكايا التي صارت إرثاً فكرياً حضارياً تتناقله الأجيال..

تقول ثناء شلش في قصيدتها “إلى أبي “” :

أبتاه ..ماذا أقول الحزن يحرق مهجتي /والدمع يصهر مقلتي والقلب يسأل هل تعود / فيجيب حالك لا انتظار لأوبتي / أبتاه قد عشت الشقاء / عشت الحياة ببأسها وعرفت ما معنى العناء / قد ذقت طعم الظلم حين رشفته / رفعت يداك إلى السماء وبالدعاء / هو وحده يعطي الجزاء”(ص78).”

هنا نجد الوهم الذي يختاره الشاعر ويعايشه ويستعيض به ليأتنس ويكافح وحشة الغربة، وما تلك الألحان التي يرقص على أنغامها قلب الشاعرة الملتاعة والشجية لموت أبيها إلا كما ” سلمى ” في أدبيات جبران خليل جبران التي ليس لها حقيقة إلا في أحلامه ومؤلفاته..

يقول بوذا ” نحن ما نفكر فيه، وكل ما فينا ينبع من أفكارنا، وبأفكارنا نصنع عالمنا ” ويقول أيضاً : ” أن الإنسان لايصل إلى الحقيقة الخالصة إلا عندما يدرك أن كل ما في الحياة هو مجرد وهم..” والشاعرة تعرف ذلك بوعي أو بدون وعي لا فرق فهذا الوهم ذاته هو ما يجعلها تستعيض بالموسيقى والشخصيات الافتراضية لتكافح وتجاهد غربتها حيناً وتستحثها على الكتابة والتعبير شعراً ونثراً حيناً آخر عندما تناجي أباها الذي قد مات فتشعر بغربة الذات والنفس وتناشده بالعودة رغم قناعتها بعدم ذلك لكنها غربة الفقد لحنو الأب وطيبته وتضحياته ..

كل تلك أنماط الغربة تأتي في سياق موضوعي، بيد أن هناك علاقة سيكولوجية بين الموضوعية والذاتية تبعاً لما تحتمه الظروف الثقافية والحضارية والإنسانية، لكن يبقى سؤال هام عالق ترتسم حوله هالة استفهامات كثيرة وهو سؤال الهوية والذي له علاقة وطيدة بالغربة، وهو سؤال من أكثر ما يدور على الألسن ومتداول، فهل حقاً للغربة دور في محو الهوية واستئصالها من أعماق الفرد، أم أن الغربة تعيد صياغة عوالم المرء النفسية لتصنع منه إنساناً جديداً له علاقة بالعالم الذي يعيش فيه، لكنه لا يقبل التنازل عن هويته الأصلية والتي بدونها – على الأقل في نظرهِ وهو الأهم لا يساوي شيئاً، والشاعرة ثناء شلش في رحيل تخالف تلك الأنماط التي مسخت هويتها الغربة بما احتواه الديوان من تفاصيل الأشواق وحكاية الحنين في ذات الشاعرة الذي ليس له قرار..

· ثيمة التطهر في رحيل

وبالإنتقال إلى الثيمة الثالثة في ديوان رحيل نجد أن إتفاقنا على أن الحياة المادية والتكنولوجيا الحديثة قد طمست على معالم الجمال في النفس البشرية ودأبت على تشويه القيم الجميلة في قلوب الناس وحثتهم على ترك الانتباه إلى ماخلق الله من جمال في هذه الدنيا وسلبت المرء دهشته بعوالم الطبيعة وسحرها، فإن المادية والتكنولوجيا هي مرض العصر بامتياز، ولاسبيل إلى التطهر من كل ذلك القبح والتشوه إلا بتذكر كل إنسان لميلاد مرضه المادي الأول عن طريق جولة سريعة بين الورود ومفاتن الطبيعة وهذا مايبدو جلياً لنا من أول وهلة تقع أعيننا فيها على ديوان ” رحيل ” للشاعرة ثناء شلش وتشعر بذلك بمجرد أن تفتح المجموعة التي سطرت بالإهداء الذي يقول :

((إهداء..

إلى أمي وولدي، أهدي كتاب أشعاري…

هما نور بعيني ، هما نغم بأوتاري.

· التطهرCatharsis:

يرى أفلاطون كونه أول من استخدم هذا المصطلح أن المأساة تطهر المتفرجين من عواطفهم وانفعالاتهم المكبوتة عن طريق استثارتها في نفوسهم. وحين تناوله أرسطو قال أن المأساة تطهر المتفرجين من “الانفعالات والعواطف المتطرفة”.

وفي القرن الماضي دخل مصطلح “التطهر” أو “التطهير” في علم النفس التحليلي من مجالين المجال الثاني وهو ما يعنينا، في العلاج النفسي عند المدرسة التحليلية منذ ابتكر عالم النفس “جوزيف بروير” أسلوباً للعلاج أطلق عليه اسم “الأسلوب التطهيري” حيث يطلب من المريض النفسي أن يحاول أن يتذكر أول مرة لاحظ فيها أعراض المرض فإذا تذكرها شفي المريض كما زعم “بروير” وفي قصيدة (قد كنت يوما شاعرة ص 58) تتعافى الشاعرة ويتعافي اللاوعي الجمعي بقولها :

تلقى القصائد في الليالي السود ..تمسي من ضياها مقمرة

وترددالأبيات في الروضات ..تصبح من شذاها عاطرة

وتخاطب الأطيار في الأوكار ..تغدو في سرور طائرة

وتداعب النجمات في الظلمات ..تلمع في حبور زاهرة

قد كنت يوما شاعرة.

واقتبس فرويد هذا الأسلوب في بداية تكوين نظريته المتكاملة في التكوين النفسي للإنسان وفي علاج مرضاه وكـان لا يزال يؤمن بأن الحالات العصبية (أو الأمراض العصبية) ترجع إلى أحداث بعينها في حياة المرضى ولكنه عاد فعدل من فكرته وأرجع كثيراً من حالات “العصاب” إلى ما وصفه بأنه “صراع” بين الدوافع الغريزية والقيم التي رسختها الثقافة أو المجتمع. وعمل “فرويد” بعد ذلك على تطوير أسلوب “التداعي الحر” حيث كان أسلوب التطهير أحد جوانبه فحسب.

إن النظر العميق يهدي إلى أن مسألة التطهر تقتضي وجود مأساة أولاً وشيء يخافه الإنسان ويخشاه، ولعلنا نفطن جيداً أن المادة هي قبح الحياة بما تفعله في قلوب البشر من بغضاء وكذلك ما تولده من كراهية بينهم ولأجل ذلك أصبحت المادية الحديثة تشكل مأساة بل هي المأساة الحقيقية للإنسان في العصر الحديث خصوصاً بعد أن تخلى الإنسان عن قيمه النبيلة وقتل كل ما يمت إلى الجمال بداخله فأصبح في أمس الحاجة إلى من يوقظ بداخله ميلاد افتتانه بالجمال وكذلك ميلاد مرضه بالمادة كما زعم “بروير” .

وكما أفترض مصطلح التطهر أو التطهير لدى أرسطو ومن قبله أفلاطون وجود مأساة فإن مجموعة ” رحيل” التي سعت الشاعرة من خلال ما جاء فيه من نصوص عن الحب والتدين، تقوم بفعل التطهير للإنسان من مأساة المادية والبغضاء لأن الشعر يقوم بفعل التداعي الحر لدى المتلقي وهو ذاته ما انتهجه فرويد في علاجه لمرضاه.

وكما رأى “كارل يونج” أن الفنان لا يعدو كونه أداة يستخدمها اللاوعي الجمعي، الذي يتحكم في مختلف سلوكيات الإنسان وممارساته، ومن ضمنها الممارسة الفنية.

والامتياز الوحيد الذي يتفاضل به الفنان عن غيره من آحاد الناس هو قدرته على الإنصات لهذا اللاشعور والتعبير عنه، تقول الشاعرة ثناء شلش في قصيدة (أتسألني– ص 70) :

أتسألني لما تهنا لم اختلفت خطاوينا

لأنا قد نسينا الشعر مزقنا الدواوينا

وأدنا حلمنا العملاق ما هنت مآقينا

وما رق الفؤاد له وما ارتجفت أيادينا

فعذرا سيدي عذرا فإن الحزن أعيانا

فما أبقى لنا شعرا وما أحيينا وجدانا

. وبذلك يصبح الفنان والشاعر لسان حال مجتمعه وعصره الذي يصغي فتبوح له الأماكن بأنين روحها، وذلك اللاوعي الجمعي هو الذي يتحدث في ديوان ” رحيل” فيكون بذلك المجتمع في أمس الحاجة إلى تذكر ماقتلته المادة في نفوس الناس من جمال وافتتان ودهشة بالطبيعة.

ذلك القبح للمادة في النفس البشرية ينطبق عليه قول الشاعر :

” هو هذه الكف التي تغتالنا / ونقبل الكف التي تغتالُ “

إنها المازوشية التي تجعل الإنسان يتلذذ بتعذيبه لذاته، فهو يشاهد الخوف ويستلذ بمشاهدته ولاسبيل إلى تطهيره من كل ذلك القبح سوى بإعادته إلى مواسم البراءة والجمال في الحياة كما يتحدث اللاوعي الجمعي في ديوان “رحيل” على لسان الشاعرة وفي (قصيدة : صوني القلب – ص 72) تقول الشاعرة :

أري قلبي بعينيك فصوني القلب كي أحيا

ولا ترميه دمعتك فيفقد قلبينا الوعيا

وغض الطرف آنستي فرمشك للهوى ريا

لينفذ سهمه عندي ويلهم قلبيا الوحيا

وتماماً مثلما تحن الشاعرة في رحيل إلى ميلاد القلب الأول والدمعة الأولى في حياتها يحن المجتمع الذي مازالت بكارة الحياة تحرضه على المادية والتكنولوجيا إلى التطهر بالدمع والشعر والهوى من درن المأساة.

نجد كذلك من الأمثلة والشواهد أكثر من أربع قصائد لحديث الأشياء والذات ” شمس الإسلام ” و” كبرياء أنثى” و ” ماذا أقول ” وغيرها.

· ثلاثة نماذج

وكنماذج يمكن أن نأخذها من ديوان رحيل للشاعرة ثناء شلش نختار ثلاثة نصوص أولها نص قصيدة ” كبرياء أنثى” (ص82) “:

بالبديهة سيكون العنوان هو العتبة الأولى للولوج إلى النص، وعنوان قصيدة ” كبرياء أنثى” من الديوان الأول ” رحيل ” للشاعرة ثناء شلش يرد في تقنيته ضمن أنماط العناوين التي ميزها ريفاتير من أنماط الاشتقاق المزدوج وتقنيتها في كتاب ” قراءة في قصيدة النثر “لسوزان برناد ونلاحظ التنافر الدلالي في العنوان الذي يشبه نص ” سطوع القمر ” لكلوديل والذي عالج موضوعاً هو القمر مع أخبار خاصة بالشمس مثلما يعالج عنوان الشاعرة ثناء موضوعا هو الكبرياء مع أخبار خاصة بالضوء وهنا نجد اشتقاقين متنافران دلالياً..

– في مطلع القصيدة تعدد الشاعرة ستة فضائل ورذائل ونلاحظ هيمنة الرقم ستة واستخدام الشاعرة له كأحد الأرقام المنطوية على أسرار محمودة خصوصا في الثقافة العربية والتراث العربي، تقول : السماح / الرجوع ! / الدموع ! / الضلوع ! / الخنوع ! / الجوع! / الركوع! /

اذهب بلا عود ولا تنوي الرجوع

اذهب ولن تهمي عيوني بالدموع

بيدي قد مزقت قلبي ثم كسرت الضلوع

من خان عهدي لن يري ذلي فلا أرضى الخنوع

من باع لا لن أشتريه ولو ظمئت ومت جوع

لا تنتظر مني السماح فكبريائي أبى الركوع) ص82

إن نقطة القوة في هذا المقطع من القصيدة تكمن في قول الشاعرة ” من باع لن أشتريه” وهي تتعمد النفي للمواساة ولعل الجدير بنا أن نقف قليلا على كلمة ظمئت

لقد ارتبط اسم نهر الظمأ بنهر النيل ، وكان للنهر كبير الأثر في حضارة المدينة عبر العصور وتغنى به العديد من الشعراء قديما وذكر في الكثير من المراجع التاريخية لأهميته ويقول المؤرخ (ابن عساكر) ان نهر النيل كان يعرف قديما باسم نهر باراديوس اي بمعنى نهر الفردوس، واطلق عليه الاغريق اسم نهر الذهب وقد ذكر نهر النيل في الكتاب المقدس (التوراة) وفي مراجع تاريخية كثيرة ويوجد لوحات فسيفساء تاريخية تبين نهر النيل مارا بين منازل الصعيد للنهر أهمية تاريخية كبيرة وقامت على ضفافه أحداث هامه منذ فجر التاريخ.

إنها إشارة لتاريخية هذا النهر وما حصل عنده عبر التاريخ من قصص محبين وحالمين وأشقياء وسعداء وقلما نسي شاعر في العصر الحديث أن يكتب عن هذا النهر كان أشهرها قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي الراثية لحال القاهرة أثناء استعمار القوات الفرنسية لها.

وكذلك نجد إشارة أخرى وتناص مع قوله تعالى عن الشعراء :” وأنهم يقولون ما لا يفعلون ” وتعود الشاعرة في نهاية المقطع لتنفي عدم الانتظار والسماح عن مكمن الخطأ ليظل سؤالاً مفتوحاً وحمال أوجه.

أما في المقطع الثاني من القصيدة فتتحدث الشاعرة عن الماضي الذي يعلق عليه كثيرٌ من الناس أسباب ما يحدث لهم في الحياة وما يقترفونه من أخطاء وتقول : ( من قصيدة “ماذا أقول ؟”ص 84

ماذا أقول ؟ كثرتي يا أحزاني

وملأت قلبي عقلي بل وجداني

كدرت صفوي بل قتلت مشاعري

ومن الدموع تقرحت أجفاني )

وفي المقطع الثالث نجد إشارة إلى مالك ذلك الطائر الحزين في حكايات كليلة ودمنة لابن المقفع وإلى تجمله بالأمل رغم الحزن الذي يلازمه ويحيق به وهو ما يجعل منه جميلا وهنا أيضا ارتباط وثيق بين دلالة الضياء في عنوان القصيدة دلالة وبين الأمل وبين دلالة العتمة والطائر الحزين ليتضح المعنى كاملاً، تقول الشاعرة : ( قد ضاق صدري بالهموم وليتها

دموع عيني أطفأت نيراني

جفت دموعي من لهيب فؤاديا

وعن الكلام البوح عجز لساني

من قلب صمتي قد دعوت الهيا).

– كثيراً ما يكون السؤال أو الدعوة إليه بغرض الطلب وليس البحث عن إجابة وهنا تطلب الشاعرة من خالقها أن يرحم فؤادها ويمن عليها بالفرج وتطلب أيضاً أن يرفع عنها البلاء وتهجر دنياها الأحزان ، وكلما اتسعت ثقافة الإنسان عنها كلما سهل الخالق الداعي واستجاب الرجاء عليه في نفسه وفي واقعه..

ونعم الخالق كثيرة لايعرفها كثير من الناس وللعارفين فهي كفيلة بتلوين الحياة الداكنة حين نفقهها وهنا أجد شيئا من التصوف لدى الشاعرة..

وليتكشف المعنى أكثر تقول طائفة من الصوفية تدعى ” النقشبندية ” أن للإنسان عدة أنفس ولكل نفس هالة أو ضوء خاص بها فترى أن اللون الأخضر لون النفس الراضية واللون الأسود لون النفس المرضية (أرضاها الله) واللون الأحمر لون النفس الملهمة واللون الأبيض لون النفس المطمئنة واللون الأصفر لون النفس اللوامة واللون الأزرق لون النفس الأمارة بالسوء..

وبخصوص الحياة الداكنة التي تشير إليها الشاعرة ثناء شلش في القصيدة تتداعى شبيهات كثيرة وهامة فالأشياء بالأشياء تذكر، فجسر ” بلاك فرايار ” في لندن الشهير بجسر ” الانتحار ” كان لونه بني داكن وعندما أجريت عليه نظرية الألوان وتحديداً اللون الأخضر وتم طلاؤه به انخفضت حوادث الانتحار إلى الثلث..

إنها دعوة إلى الهروب من المنغصات المسودة لحياة الإنسان والمكدرات والروتينيات إلى عوالم الحب والسعادة والتي ترمز إليها الشاعرة بألوان الدعاء والرجاء .

تقول ثناء : ( ارحم فؤادي خالقي وجناني/ وبمنة فرج الهي كربيا .. / واجعلها تهجر دنيتي أحزانه

في المقطع التالي في القصيدة تقول ثناء :

(شهر الربيع بك الربيع اختالا ..وازداد هذا الكون فيك جمالا

أهدي الإله إلى البرية أحمدا ..فافخر به يا ذا الربيع تعالى)ص40.

يقول الروائي العالمي باولو كويلهو في مقدمة روايته الشهيرة “الخيميائي ” : (تناول الخيميائي بيده كتابًا، كان قد أحضره أحد أفراد القافلة، لم يكن للكتاب غلاف، ولكنه استطاع على الرغم من ذلك التعرف على اسم الكاتب ” أوسكار وايلد ” وهو يقلب صفحاته، وقع نظره على قصة كانت تتحدث عن ” نرجس ” … لاشك أن الخيميائي يعرف أسطورة ” نرجس ” هذا الشاب الوسيم الذي يذهب كل يوم ليتأمل بهاءه المتميز على صفحة ماء البحيرة.

كان متباهيًا للغاية بصورته، لدرجة أنه سقط ذات يوم في البحيرة، وغرق فيها، في المكان الذي سقط فيه، نبتت وردة سميت باسمه: “وردة النرجس”.

لكن الكاتب ” أوسكار ” لم ينه روايته بهذا الشكل، بل قال أنه عند موت نرجس، جاءت الإريادات (آلهة الغابة) إلى ضفة البحيرة العذبة المياه، فوجدها قد تحولت إلى زير من الدموع المرة، فسألتها:

– لماذا تبكين؟

– أبكي نرجسًا. أجابت البحيرة.

فعلقت الإريادات قائلة:

– ليس في هذا ما يدهشنا، وعلى الرغم من أننا كنا دومًا في إثره في الغابة، فقد كنت الوحيدة التي تمكنت من تأمل حسنه عن كثب.

– كان نرجس جميًلا إذًا ؟

مكثت البحيرة صامتًة للحظات ثم قالت:

– أنا أبكي نرجسًا لكنني لم ألحظ من قط أنه كان جميًلا، إنما أبكيه لأنه في كل مرة انحنى فيها على ضفافي كنت أتمكن من أن أرى في عينيه انعكاسًا لحسني.

القصة جميلة جدًا. قال الكيميائي. ).

إنه العطاء مرض القلوب العظيمة من ترى الجمال أو من تخلع الجمال على كل شيء تراه ليصبح جميلاً على حد تعبير كانط أو كما يقول الفيلسوف العبد “إيبكتيتوس” :” ليست الأشياء في ذاتها خيراً أو شراً وإنما يخيف الإنسان منها هو تصوراته عنها “.

– أما النموذج الثاني من ديوان رحيل الذي نتناوله بالقراءة والتحليل فهو نص قصيدة ” شهر ربيع ” :

يقول النص :

في الثاني بعد العشر قد ولد الهدى..ذا النجم في كبد السماء تلألأ

يالحظة البشرى اخمدي نار المجوس ..وزلزلي إيوانهم زلزالا

بل دمري للمشركين كيانهم ..بل مزقي أوثانهم أوصالا

من نسل إسماعيل جاء محمد ..حمل الأمانة حطم الأغلالا

وسري بليل الكفر ينشر نوره ..كم عذبوه فآثر الترحالا

إذا كان الشعر خاصة، والفن عامة وسيلة للتعبير الموحي، فمعنى هذا، أنه بذلك الإيحاء يعوض عن الواقع المفتقد، لبعده، أو لرفضه، أو نقصانه، فرسم عالماً آخر أفضل، به ينتقل الإنسان الشاعر إلى وطن جديد يسكنه، وقد صنعه بذاته.

كانت القصيدة عند عرب الجاهلية تفتتح بذكر المرأة، فالمكان المأنوس أو المهجور، أصبح ذلك تقليدا جرى عليه شعراء العربية حتى العصر الحديث، إلا من أخذ من المعاصرين والحداثيين بأسباب الحضارة الراهنة فمنهم من يبدأ بمناداة وردة ومناجاتها كما فعلت الشاعرة في قصيدتها

مناجاة. زوج الشهيد ،شيء لم يدر في البال، أو يجر في الواقع أن أحداً يستغيث بزوجة الشهيد ولا يقدم على مخاطبة الجاني ، وهل العبقرية إلا نوع من الجنون ولكنه إلهي كما يقول أفلاطون

وجدت ثناء أن تمثيل اللاجدوى لا يتحقق إلا باللجوء إلى الكلام الذي هو صفة بشرية وعقل بشري، وإلى الإبداع الذي منه الله الشهيد، وكلاهما حصيلة واقع حسي ملموس، أو مدرك، لكنهما مجتمعان لا يمكن أن يحصلا إلا في الذهن أو الخيال.

الفن غايته الجمال. الجمال غايته ذاته في دورانه حول نظامه، لكن له دورة نوعية في المطلق. والإنسان هو الذي يكتشفه، وبما أن الجمال جمع، وانسجام، فبمقدار مايلمّ الشاعر، ملاّح الوجود، وجوّاب آفاقه، مختلف العناصر، والمتفارقات، ليوحد بينها، بمقدار ما يكون فناناً، جمالياً، وموحداً للكون.

تنساق الشاعرة بعفوية في نص “بنيتي “ص 36 مع بعض الوجوه القريبة من القلب ابنتها ، وهي الهادف الداخلي كان رؤية في الوجود، تضع بعض مقاييس التحول. حيث كل شيء يمكن أن يتحول إلى أي شيء.

لعبت الشاعرة بأشياء كثيرة من هذا النداء لإبنتها، لا تربطها في الظواهر رابطة، عبّرت بها عن الحالة، منساقةً بدواعي من العقل الباطن.

ثمة مرحلتان الأولى كانت ثناء فيها هادفة، مهندسة رياضية في المرحلة الثانية غير بعيدة عن مثل ما فعله ” مالارميه ” ساعة استعان بالحروف والأرقام، بأوضاعها، بالتقديم والتأخير لدن تنظيمها في السطر، حتى التنقيط، فهو معبر لديه، وشيء آخر لم يقله مالارميه ولا يقوله الشعراء النابهون، لأنه للقارئ، لخياله المستوحي، والمبدع، منتقلا من القيم الداخلية، إلى القيم الموسيقية، عائداً إلى القيم الداخلية، ثم مستفيضاً بصوفية تغمر الأكوان.

الإيقاع مضمخ بعطر الموسيقى، الصور ترفع الحالة إلى درجة الوله، الألفاظ مقصوبة من قلب بنيتها اميرة، تمرح،ترتوي. الحبكة عليها أثر أنامل فنان أصيل، متمرس بنسج الطيالسة.

في القصيدة تخطٍ للحسيات إلى أفق الرؤيويات ومنها مخاطبة الأشياء بلغة القلب وكما تتصور في الذات، خلعت الشاعرة فيها ثوب ذاتها على الموجودات، خالقة بنفسها عالماً آخر للبصيرة سوى عالم المشاهدة وهذا درب من دروب الرومنطيقية.

شاعر الرومنطيقية يلغي عينيه ليرى ببصر من داخل نفسه، فالمسافات التي تتحدث عنها الشاعرة بعيدة جدا رحبة المدى، لا تستلين لمدى البصر، لكن الشاعرة لها عين أخرى داخلية، هي عين المحب الوله وعين المشتاق التي تخضع لها مسافات ما بين الأماكن والكواكب والمغيبات.

لقد أرادت الشاعرة أن تمتدح ابنتها أميرة لكنها لم تقل ماجاء على لسان الرومانطيقيين ومن هم على شاكلتهم بل أخذت تفصل في الممدوح وتفصل في المشبه به برسم ظروفه المختلفة بطريقة تامة، ثم يأتي المشبه ويفضله على المشبه به بطريقة مدهشة للغاية فأميرة مشبه ومشبه به مثلما هنا : ” ويستحي من نورها بدر الدجى / أرى النجوم من سنا منيرة / إن ضحكت تبسمت شمس الضحى / وإن بكت أرى السماء مطيرة ! / وإن سعدت تمايلت أغصانه وغردت في روضنا طيوره “ص36

لقد اجتمعت في القصيدة أغراض شعرية متعددة منها المديح والغزل والفخر، ولأن الصغيرة كانت رمزاً في القصيدة فكل تلك الأغراض قد تحرك المرمز له بصفاتها، وقد قيل أن شعر المديح والهجاء لدى العرب كان محل التراجيديا والكوميديا في الشعر اليوناني، ليس عن مقابلة، بل عن ضرورة إزدواجية، شبه حتمية تنبع عن مواقف ذلك الشعب الاجتماعية، ونوازعه الأخلاقية.

والعربي مغالٍ في حبه للمديح، يهتز للكلم الجميل ويروقه، والخاطرة المتوهجة، والصورة الخضراء، فلا بدع إذا أنفق ماله، وضحى بوجوده، وأقام حرباً، وأبرم سلماً، في سبيل الاستجابة، لقافية مداحة من شاعر، أو لغزل شاعرة.

– والنموذج الثالث قصيدة ” كن لطيفا يا شتاء ص28 ” :

يقول النص :

يارفقتي جاء الشتاء ..يا ويلتاه من الشتاء

فيه أحس كآبة وأشم رائحة الفناء

فالعاديات المدجنات يحجبن عن أرضي الضياء

وكأنهن رسول موت قد تسلل في الخفاء

في القلب ينشر رعبه ولينذرني بالبلاء

الشتاء والكآبة محوران رئيسيان في نص ” كن لطيفا يا شتاء ” من ديوان “رحيل ” للشاعرة ثناء شلش ، وتدور في فلكهما القصيدة وتسخدمهما الشاعرة كمعادلان موضوعيان لما تود البوح به فالشتاء دلالة مفتوحة وحالة ينقسم فيها الوعي على ذاته إلى نصفين والكآبة كذلك هي أصدق تعبير عن موطن الشعور التي يمكن أن نرى فيه أنفسنا بشفافية الماء ودلالة نصاعة وشفافية المطر تتسع كذلك لتشمل الأقرب فالأقرب والأصدق فالأصدق والأحب فالأحب، وإذا كان الأشخاص ونحن نتغير مع تغيرات الزمن إلا الشتاء لايتغير والشعورهو الشيء الوحيد الذي يسمح له كما تصف الشاعرة بالمرور عبر طرقات الروح التي تتقاطع فيها إشارات التسلسل في الخفاء وخطرة رعب القلب وهذا تعبير جميل لوصف حالة من الصدق والحب في زمن صعب لايجيد سوى الكذب والكراهية..

إن الشتاء تعبير جميل ودلالته واسعة ويمكن في تفسيرها في هذا النص بذكر مقطع من آخر قصيدة لمحمود درويش ” لاعب النرد ” حيث يقول :

” أدرب قلبي على الحب

ليتسع الورد والشوك

وأنا من أنا الآن إلا

إذا ألتقت الاثنتان

أنا وأنا الأنثوية “…

وهذا يشبه حالة الإنقسام الذي تذهب إليه الشاعرة في الشتاء حيث يتجسد وصف النصف الآخر تماما مثلما ينقسم الوعي على ذاته إلى نصفين أمام الشعور بالفرحة لدي البعض لقدوم الشتاء وقتامة وكره البعض له ، وهذا النصف المخول له بالعبور إنما هو نصف يسكننا.. ودرويش شأنه شأن الكثيرين في جميع الأنواع الأدبية والإبداعية، كشخصية فاطمة في رسومات ناجي العلي، والشخصيات الذكورية في روايات الكاتبات، وهم جميعا يؤكدون نظرية القطبية لعالم النفس كارل يونج ” التعلل والانتقال” بمعنى أن الإنسان ثنائي الجنسية، فداخل كل رجل يوجد حس أنثوي يسمى ” الأنيموس” وداخل كل أنثى حس ذكوري يسمى ” الأنيما” وهما ما يحقق التوازن لدى الإنسان باشباعهما، وهو أيضا الميل الغريزي للرجل تجاه المرأة، والميل الغريزي للمرأة نحو الرجل، لتحقيق هذا التوازن، أي أن التعدد في الكيان البشري من خلال هذا يؤكد فكرة التعددية “الناموس الذي خلق على أساسه هذا الكون” أي أن الصراع بين الرجل والمرأة هو صراع عقيم لايولد إلا المزيد من الانقسامات والنكوص والتردي في المجتمعات..

وأما الربيع فدلالته للزمن وتستخدمها الشاعرة لوصف حالة نمو الحياة وإنعدام الفرح والسعادة من ناحية أخري لدي البعض فيها وإذا كان المكان عجينة فإن العجينة هذه لاتكون إلا بيد أحد إلا الزمن وهذا الأخير مناخٌ يفنى فيه كل شيء ويولد فيه كل شيء..

حين يتوقف الزمن عن خلق السعادة فلا جدوى من البحث عنها سوى أن الإنسان يلجأ إلى كما تصف الشاعرة إلى نصف وعيه الآخر ” ورأيت شمسا تبتسم ورأيت كونا قد أضاء” كمحاولة لإنجاب ما عجز الزمن عن إنجابه فتوقظ كل جميل وتبدد كل خوف وتمحو كل الشعور بالبرد ببزوغ الشمس الدافئة التي تسري في أجسادنا ، وحين تسعفنا بالدفء / الأرض في وله فأطرق في حياء فماذا عسى أن نفعل فيها ولعلها ستكون أضعف وأقل من أن ندون كل هزائمنا، إن الشاعرة تؤكد أننا أكثر إبداعاً من ذلك..

الشتاء الذي تصفه الشاعرة لم يستيقظ فيه ولم يمنحنا سوى ذاكرة للألم كل ما فيها للندم فقط وفي اللحظة التي يمنحنا الزمن فرصة لمحاولة شيء وهي فرصة قليلة نجد أن الشمس قد خانت لحظة جميلة هي لحظة الدفء لتبدو لحظة ويعود البرد القارص فهومحالة أن يستمر بردا كما محال أن ينقطع الدفء كما أن الشجر كساها الله خزا وبهاء فصارلنا جدوى من إنتظاره..

وأخيرا يؤكد لنا النص معانٍ سامية وإنسانية وفكرة أن الرغبة الدائمة المُلحة على الإنسان هي رغبة الوجود والانتظار ، وكل مغامرات الإنسان الطويلة ليست في أقصى غاياتها إلا طريقاً لتحقيق وجوده وإثبات ذاته ومن ثمَّ لإدراك معنى هذا الوجود وقد أخذت هذه المغامرات أشكالاً مختلفة فهي تتمثل مرّة في البحث عما نسميه الحقيقة وأُخرى في البحث عمن فقدناهم وثالثة في محاولة تفهم ما التوسل والرجاء للخالق والترحم علي من فقدناهم ، وإذا نحن ترجمنا هذه المحاولات في إطار أعم أمكننا أن نتمثلها في علاقة الإنسان بالكون، وعلاقته بالله وعلاقته بالإنسان نفسه، ويتفرع عن هذه العلاقات كل المواقف الثانوية من النظر في الحياة والموت، في الحب والكره، في الخلود والفناء، في الشجاعة والخوف، في الخصب واللامحال، في النجاح والفشل، في العدل والظلم، في الفرح والحزن، وكل هذه المعاني مستقرة في الضمير الإنساني وقد استقرت فيه منذ وقت مبكر، منذ أن تبلورت التجربة الإنسانية في العقيدة الدينية، لقد استقرت في ذاكرة الإنسان التي تكونت عبر العصور، وانطبعت آثارها –من ثمَّ- في عاداته المجتمعية..

الأفكار الأخيرة

في النهاية أي نص يتحدث من خلال قارئه وإمكانية النقاد في تفسير وتحليل النصوص هي بركة وعبء في نفس الوقت. إنها بركة لأنها تمنحنا السهولة لتكييف النصوص مع الظروف المتغيرة. وهي عبء لأنه يجب على قارئ النص أن يتحمل مسؤولية القيم المعيارية التي يأتي بها النص. كل النصوص تعطي احتمالات في المعاني، وليس محتويات. ويتم استخدام هذه الاحتمالات، وتطويرها، وفي النهاية تحديدها من قبل جهود القارئ، لفهم تعقيدات النص. وهكذا فإن معنى النص عادةً ما يكون أخلاقياً فقط كقارئه. فإذا كان القارئ متعصباً ومفعم بالكراهية أو حتى ظالماً فهكذا سيكون تفسير النص وبالمثل سيكون عكس هذا الكلام صحيحاً.

وأخيرا تحية حب وتقدير للشاعرة المتميزة ثناء شلش عن متعة القراءة والجمالية الفنية والتعددية اللغوية معني ومفردة وأدوات تمتلكها في أول ديوان شعري لها (رحيل ) ، وفي انتظار الديوان الثاني والذي سيكون له طعم ونكهة تميز شاعرتنا القديرة .

دراسة نقدية

بقلم / حسن غريب

كاتب وناقد



  • حسن غريب
    عضو اتحاد كتاب مصر كاتب.. ناقد.. روائي.. شاعر
   نشر في 22 شتنبر 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا