حينما يطرأ مسامعك لفظ الهجرة إلى الخارج، تشعر بسعادة غامرة، يُداعب خيالك على الفور، المال الوفير والرغد وفارق العملة الذي سيقلب حياتك رأساً على عقب. تسرح بخيالك أكثر، فتأتيك الدهشة تتمخطر لمّا تعود من السفر محمّلا بكل متاع الحياة، فتشتري شقة وتتقدم لخطبة إحداهن، لتبني أسرة قويمة، ثم تُشرع في إنشاء مشروع صغير بعد ويلات من الغربة، وتديره بمزاجياتك دون أن يتحكم فيك مدير مُتجبر ناقص عقل ودين؟!
لكن، هل فكرت ولو لحظة في الوجه الآخر للغُربة، هل تنامى إلى فكرك وأنت تُعد العُدة ولو لبرهة أن هناك معاناة وفراق ووجع؟، فللغُربة وجه آخر، وجه مُظلم، وجه يوهن العظم، ويُرهق الفكر، ويورث في النفس التبلد والشعور بالأنانية وربما الكره!.
ففي أبريل 2017 كنت في المملكة العربية السعودية لأداء العمرة برفقة عمتي ولفيف آخر من أبناء قريتنا، كانت رحلة روحية وتعبدية جميلة، خرجت منها رابحاً، رغم جُلّ من السلبيات والبدع التي يمكن أنت تراها هناك، لكنك ستعود وبداخلك أرضٌ خصبة، زُرعت فيها أمل وحب وسلام وطمأنينة، ستعود كما ولدتك أمك، روحا نقية، وجسدا طاهرا.
وفي إحدى الليالي التي تمر بنا هناك، ذهبت برفقة الأستاذ ياسر "محامٍ والمشرف العام على العمرة"، لشراء بعض المشتريات من السوق، ونحن عائدون، قابلنا شاباً مصرياً مُقيم في السعودية، يعمل في إحدى شركات المبيعات، تسامرنا طويلاً حول الوضع في مصر والسعودية، وظل يعقد مقارنات بين هنا وهناك، كان كلامه موجع عن فراق الأهل والأصحاب، وكأنه انتهز فرصة رؤية مصريين، ليُخبرهم بحزنه وحسرته التي تسكن في قلبه. وصف الغربة، بأنها: "كلب يُطاردك، لا يتركك تنام، ولا حتى تهدأ من الجري".
لكن القشة التي قسمت ظهر صبري، وجعلتني أمتلئ بالحسرة على هذا الشاب، حينما قال حرفيا: "انا شاب عندي 28 سنة، متمرمط في الغربة بقالي 8 سنين، اشتغلت كل حاجة، لحد ما استقريت على مندوب مبيعات، ومضطر استحمل السخافات كل يوم".
حاول الأستاذ ياسر، أن يُهدأ من روّعه، بكلمات مثل الصبر والتحمل والقدر!، ورغم معرفتي بأن الأستاذ أراد أن يُهوّن عليه، إلّا أنّ الشاب بدأت حدة صوته تعلو، فقال: "بُصلي كده، ده منظر واحد عنده 28 سنة، ضيعت احلى شباب عمري في الغربة عشان القرش، والنتيجة ولا اي حاجة، قولي على شاب مصري يقدر يجوّز نفسه في الظروف المعيشية اللي بنعاني منها في مصر"
ثم أكمل بحدة أكثر عقلانية.. نعم أكثر عقلانية: " والله من بلاد كتير، بلدنا كبيرة وتسعنا كلنا، وفيها خير ليوم الدين، بس فيه ناس ولاد (.....) مش عوزانا نتقدم خطوة، عوزانا نفضل تابعين ليهم".
ساد صمت عجيب، لم يكسر هذا الصمت، سوى رغبتنا في الرحيل، نظر إلينا وهو يودّعنا، قائلا:" بلادنا قتلت احلامنا، وضيعتنا، و ياريت متقوليش مصر هي امي، والكلام بتاع المنتفعين ده، اللي نهبوا البلد، وقاعدين على مناصبهم يوزعوا صكوك الوطنية على الناس.. لان مفيش ام بتقى قاسية على ولادها كده".
"فما أضعفنا حينما نكون في الغُربة".. وكأنّ كلانا أقرّ بتلك المُصيبة، أقرّ بواقع مغزٍ نعيشه يومياً.. وجه الشاب يُقارب الدخول إلى نادي الأربعين، كان جسمه نحيفا، يُشبه عقلة الأصبع، ويداه المرتعِشتان أثناء الحديث دلّت على كيانه المُبعثر، وتأتأة شفتاه أعلنت عن اضطراب كبير، ونظراته التي تدور يُمنة ويُسرة وكأنها تخشى أن يُسمعه أحدهم حسمت واقعاً مُهيناً، بينما عينتاه كانتا مُكتظتان بالدموع، وكأنّ كرامته أبت أن تُطلق صراحهما يسيلان على خديه. ودّعنا بنظرات بائسة ورحل، أما كلانا فحملنا مشترياتنا دون أن ننبس بكلمة واحدة.
فلم أكن أتوقع أن الغُربة بهذا الألم، إنها تنهش في الجسد، كما يتمدد العلاج الكيماوي في جسد مرضى السرطان، فيكوي أفئدتهم، ويطلقون صرخات مكتومة، خشية إزعاج ذويهم.. لم أكن يوماً من أنصار المهاجرين، أن أتنقل من مكان إلى مكان، ومن حياة إلى حياة، وأضف في جوفي حسرات الغربة، لكننا أيضاً لم نكن نعيش في الجنة.
طيلة الطريق سيطر على كياني صديقٌ لي، غادر إلى الخليج منذ خمسة أعوام، بعدما أُغلقت كل الأبواب في وجه، ترك أسرته وأهله وأصدقائه بحثاً عن "لقمة العيش"، بحثا عن مستقبل لا يعلم مداه سوى الله!. كلما هاتفته لاطمأن عن ظروفه وكيفية التأقلم مع الغربة، أجابني بصوت أشعر بتصنعه: "كله تمام.. أنا بخير.. لا تقلق.. وحشاني لمتنا مع صحابنا". ورغم معرفتي بمحاولاته الدؤوبة في تغيير دفة الحديث، إلّا أنني لم أُثقل عليه، وطاوعت احساسه، لنتسامر في موضوع آخر. لكن الكلمة التي لن أنساها يوما، حينما قال لي: "العيد والإجازات في الغربة ملهومش طعم.. حاجة مسخة.. ربنا يكون في عون اللاجئين"!. هنا تجلّت حقيقة ظاهرة، لن يشعر بآلامك إلا من مرّ بتجربتك، إلا من نظر نظرة وداع على وطنه الممزق وقرر الرحيل!
عُدنا إلى الفندق، ولم يتجرأ أحدنا على الحديث، فكان الصمت كفيل بوأد بوادر أي كلمات لنواسيه بها، ترك ذلك الشاب بصمة سيئة وسلبية عن الغربة، "على الأقل في صدري"، أصبحت لا أطيق هذا المصطلح، لا أحبه، لا أريده أن ينتشر كالطعون، ويستشري في أوصال المجتمع يرقص على أنغامه جيلي؛ ذلك الجيل الذي ضحى بكل ما يملك، في سبيل تحقيق غدٍ أفضل، لكنه لم ير سوى السراب.
إنها خيبة أخرى، تُضاف إلى الخيبات التي تسكن في قلبي، لم يعد قلبي يتحمل المزيد، وجع فوق وجع، وحسرة بجانب حسرة، وألم يضرب ألم، وكأنني بلا صاحب، بلا شيء يوقظني من عناء هذا العالم، فإلى متى ستتحمل تلك المُضغة كل تلك المشاهد؟.
لأول مرة أستلق على السرير، وقلبي لا يزال يخفق، لا يزال يتذكر المشهد كاملا، زفرت تنهيدة طويلة خرجت بعدما كتمتها لثوانٍ، وأنا أُردد في نفسي: " إن الوطن الذي يترك أبنائه يغادرون قهراً ليس بوطن". ثم سرحت في عالم آخر من صنعي، حتى استسلمت تماماً ونعست
"فاللهم كُن عوناً لكل لاجئ،، وكل راحل،، وكل مُغترب
فإنك أنت الصاحب في السفر".