صدقت العرافة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صدقت العرافة

  نشر في 19 شتنبر 2015 .

كنا حفاة عراة أغلب قوتنا الخبز والشاي، ومرة بعد مرة نمرر لساننا على شفتنا العليا متذوقين مخاطنا. وقبل أن نصل إلى سن التمدرس كنا نشكل عصابات خطيرة في الحي ونهاجم عصابات أخرى للأحياء المجاورة. طيلة أيام الأسبوع يكون هذا هو عملنا باستثناء يوم الجمعة؛ يوم الكسكس، رغم أن معظمنا كان لا يحب الكسكس ومنهم أنا. صبيحة الجمعة تحممنا أمهاتنا ثم نتوجه للمسجد، وبعد انقضاء صلاة الجمعة لم نكن نعود أدراجنا مباشرة للبيت، بل كنا نعرج على عرافة الحي؛ المرأة غريبة الأطوار، أو المرأة العنكبوت كما نسميها، وسبب تسميتنا لها بهذا الاسم راجع بالأساس إلى العناكب الكثيرة في بيتها المهترئ، فكل زائراتها من حينا يقلن ذلك، فبعد اجتيازهن للباب الخشبي المفتوح على الدوام تعترضهن شبكات العنكبوت الكثيرة، وتزحف "القميلة" (قميلة الدجاج والحمائم) إلى أجسادهن فتشرع النسوة في الحك الشديد. كنا نجدها يوم الجمعة جالسة أمام بيتها شاردة، ممسكة عكازتها، وبمجرد أن تسمع صراخنا من بعيد كانت تعتدل في جلستها وتبسط رجليها للأمام وتضع عكازتها جانبا وتتبسم:

_ أهلا أهلا بالأبطال اشتقت لكم، اجلسوا اجلسوا...

نرد التحية ونصطف جنب حائط البيت، ثم واحدا واحدا تقرأ لنا الكف. كنت أتخلف إلى آخر الصف وأسترق النظر إليها، لم تكن كالساحرات ذوات الذقن والأنف الطويلين، كانت امرأة نالت منها التجاعيد وشاب رأسها، لا ترفع عينيها إلا وبريق غامض يشع منهما؛ بريق كلما اصطدمت أعيننا خفق قلبي الصغير.

_ قلت لك يا محمد، ستصبح شخصا مهما ، وسيقبل الناس يديك لترضى عنهم...

محمد يكاد يطير من الفرح، ويظل دوما يذكرنا بذلك، بل ويتجاوز ذلك ليطلب منا أن نقبل يديه ممثلا أنه هو "المقدم"، هذا جل ما كان يحلم به.

_ وأنت يا محسن، أخشى عليك من الأيام، ستبكي كثيرا يا صغيري، ولكن ستجد سندا في حياتك يخفف عنك آلامك.

_ أما أنت يا سعيد، فلن تمكث في هذه المدينة الحزينة ستطير، ستحلق، سترانا من فوق...

.

.

.

.

وعندما يقترب دوري كنت أركض راجعا أدراجي، تاركا أصدقائي يترجون العرافة أن تعدل لهم المستقبل للأحسن. كنت أتذكر كلام أمي؛ بأن من صدق عرافة يعتبر مشركا بالله. كل ذلك كان يحدث وأمهاتنا لا دراية لهن بالأمر. نفس السيناريو يتكرر كل جمعة تقريبا، وذات مرة سمعنا في الحي أن العرافة مريضة جدا ففكرنا في زيارتها. وبعدما دخلنا عليها الغرفة حيث ترقد مفترشة بعض قطع الحصر الرثة ابتسمت وسألتنا وعيناها تبرقان:

_ أهلا أهلا بالأبطال، اشتقت لكم، ألم يأت معكم رشيد؟

لحظتها تنحى الأصدقاء وفسحوا لي الطريق، كنت أتقدم نحوها وقلبي يخفق، لا أريدها أن تتنبأ لي بمستقبلي لأني سأصدقها وأصبح مشركا، وسأدخل النار مع الداخلين...

_ أهلا يا رشيد، مد يدك ولا تخف.

_ .......................................

_ لا شيء يظهر لي في مستقبلك، يبدو أني متعبة، علي أن أرتاح قليلا، شكرا لكم يا أبطال عليكم أن تنصرفوا الآن.

بينما كنا نهم بالانصراف طلبت مني المكوث لدقيقة، أحسست بذبيب يسري في جسمي النحيل، وبدأت تظهر لي صور العفاريت بأسنان طويلة وحادة كالسكاكين، وفجأة سمعتها تبسمل وتتعوذ وتقول كلاما غير مفهوم... ثم أجهشت بالبكاء. حاولت معرفة السبب لكن لساني خانني من شدة الخوف الذي اعتراني، ثم كفكفت دموعها وقالت:

_ لا تحزن، سيموت والدك بعد نجاحك في عامك الدراسي الأول، وسترى العجب العجاب يا صغيري، حظك عاثر، وطريقك شائك، ستتعذب إلى آخر يوم في حياتك... أتمنى أن أكون مخطئة.

حاولت أن لا أصدقها فهرولت إلى الخارج، هناك كان أصدقائي ينتظرونني، سألوني ماذا قالت لي العرافة، قلت لهم لا شيء، هي فقط طلبت مني أن أحضر لها بعض الملابس المستعملة من عند أمي. كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها العرافة، وفي الليل بت أحلم بأبي ميتا، وبي تطاردني كلاب عملاقة لا تكل من الركض خلفي والنباح علي... ولما بلغت سن التمدرس أخذني والدي للمدرسة، وفور عودتي مساء سمعت خبر وفاة العرافة، ليلتها لم أنم، كنت عازما على إخبار أمي بما قالته لي العرافة ذات زيارة، لكني لم أقو على ذلك.

انتهى العام الدراسي الأول ونجحت ومرت العطلة الصيفية سريعا، ثم بدأنا نذهب لتسجيل كتب المستوى الثاني، كنت فرحا جدا لأن أبي لم يمت، وقد انتهى العام الأول. وبينما نحن عائدون من المدرسة التقينا بسيارة بيضاء مكتوب عليها "إسعاف" كانت تحمل جثة أبي بعد تعرضه لحادثة سير مروعة... مع السنين حاولت أن أعوض أمي عن الألم والضياع الذي مرت به بعدما أصبحت شابا يافعا لكن بلا جدوى. كنت كلما قبلت في عمل سرعان ما أطرد منه، وقلب أمي الصغير لم يتحمل عذابي فماتت كمدا وحسرة علي. ومنذ ذلك الحين لم يعد شيء يسترعي انتباهي ولو كان هذا الشيء هو أنا...

أبلغ من العمر الآن خمسين عاما، ونفس العمر يبلغه أصدقائي القدامى تقريبا، محمد لم يكمل دراسته لكنه أصبح "مقدما" في حينا. ومحسن توفيت والدته وتزوج والده من جديد، وكانت زوجة أبيه تضربه ضربا مبرحا وتكلفه بأعمال شاقة، لكنه وفي ظروف غامضة لما صار شابا يافعا التقى بفضة ذاب فيها نحاسه... أما سعيد فقد أكمل دراسته العليا وتخرج، كان يتقن عدة لغات مما ساعده على السفر إلى كندا والاشتغال هناك.

حاجة بيولوجية أن يفكر الإنسان في الزواج، وهو ما فعلته بعد تجاوزي للأربعين. كانت بدورها قد جاوزت الثلاثين، تعرفت عليها ذات لقاء شعري بعدما قرأت قصيدة رثاء عن أمي. كنت أجد فيها نفس العينين، ونفس الملامح لأمي، لذلك أغرمت بها. كانت سببا في عودة الحياة لقلبي الكئيب.

وبعد سنتين من زواجنا رزقنا بطفلة، أسميناها حبيبة. كانت جميلة جدا، أحببت الحياة من جديد في عيني ابنتي الملاك. لا يمكنني وصفها، لأنها تمتلك كل الأوصاف الجميلة. وذات يوم لما عدت من العمل _وعملي كان في مكتبة؛ كنت موزع الكتب وجامعها_ وجدت الموت قد أخذ ملاكي الصغير في ظروف غامضة. ومن يومها إلى اللحظة _في هذه الرسالة الموجهة لزوجتي التي هجرتني لأنني أصبحت ميتا.._ لم أنفك عن التفكير في ملاكي الصغير، هضمت موت أبي وأمي بصعوبة، ولكني لم أستسغ موت حبيبتي.

يا زوجتي الحبيبة، قد تفهمين الآن عجزي، فأقصى ما يمكنني قوله لك هو: هكذا تكلمت العرافة.



   نشر في 19 شتنبر 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا