أحدُهم أخذ يسردُ سلسلةً من الاعتراضات والتظلُّمات لشخص ما قد ظلمه، ولاريب أنَّ ما ذكره يعجُّ بكثير من الظلم والقهر وتقرُّحاتِ الألم
وفجأةٌ!! يُقاطعه أحدهم قائلاً : يارجل؛ يومَ القيامةِ الحساب عسير..!
كلماتٌ تهزُّ الجبال قبلَ أن تهزَّ الفؤاد، مكثت أتساءل كيف هو هولُ ذلك اليوم العصيب، وأين مفرُّ الجبابرةِ المتكبرين؛ والظلَمَةِ الحاقدين، الذين ملؤوا الدنيا ظُلماً وجوراً، وكيف سيشفي الله صدورَالمنهكين بأنَّات القهر والظلم، وكيف سيداوي قلوباً جرحى، ويُضمِّد تلك الجراح؟
اتجهت لكتاب الله والتساؤلاتُ تَشغلُ الفكرَ والفؤادَ بحثاً عن الجوابِ الشافي، فليس غيره طباً للقلوبِ وكاسراً لأسوارِ الشك ومحرراً لها
أخذتُ أُقلب صفحاتِ المصحفِ متنقلاً بين جِنانه، وعجيبِ بَيانه، مستحضراً تلك التساؤلات،
وبدونِ سابقِ إنذارٍ...!!
يقع ناظري على آياتٍ قرعت القلبَ وهزَّت عروشه
يقول الله تعالى (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ)
نعم سيجمع الله الجميع، المسلمَ والكافر، البرَ والفاجر، الذكرَ والأنثى، والصغيرَ والكبير كلهم سواسيه، عظيمهم وحقيرهم، أميرهم وعبيدهم، لا مكان للعلوِّ في ذلك الموقف إلا لذي الجلال، الكبير المتعال، في يومٍ يفصل الله فيه بين الحق والباطل في يومٍ يحكم الله فيه لامعقب لحكمه، في يوم لا عزيزَ إلا هو ولا متكبرَ إلا هو.
أين من طغى وتجبَّر، أين من ملأ الدنيا جورا وظلما
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)[سورة طه 111]
كلُّ من قد عزَّ وتجبّر لايغني عن نفسه شيئاً فضلاً عمَّن ملك وتولى،لا ناصرَ ولا معين في ذلكم الموقف إلا الله، ولا حظَ لأحد في موقف الفصل إلا لمن رحم الله ((يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
ثم أنظر كيف ساقَ بعد هذا المشهدِ الذي يسلب اللبَّ وتُقاربُ معه القلوبُ الحناجرَ، إلى مشهدٍ مفزعٍ من مشاهد النار وأهوالها، وذكر نوعاً من العذابِ مناسباً للحال، فالأكل والشرب من بداهة الحياة ويستطيع تناوله أحقرُ المخلوقاتِ وأعظمُها بتييسرٍ من الله، وله ماطاب من المطعم والمشرب ما يشتهي، لكنه في ذلك الموقف لايملك ردَّ الطعام فضلا على أن يتخيَّر من الأصناف مايشاء فقال سبحانه بقوة في العبارة وبغتةٍ في الخطاب
(إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)
ثم يأتي الأمر بعد ذلك بنقله إلى العذاب والجحيم فليس الغليان في البطون إلا بدايةً للعذاب والقادمُ أشد
(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)
ثم يأتي الخطابُ بالزجر لمن كان متجبراً متغطرساً هو في قومه أكرماً
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)
نعم ذق إزاءَ كبرك وتعاليك اليوم؛ ما كنت تشكك وتكذب.
ثم ينتقل كخاطفةِ البرق مطمئناً لقلوب المؤمنين، وثباتاً للمخبتين، وتنفيساً للمكروب، وتفريجاً للمهموم، ونصرةً للمظلوم،وجزاءً للصبور
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)
في مكانٍ ومُقامٍ آمن، تطيبُ به الأفئدة وترتاحُ، متقلبون في نعماء الله عليهم، على سرر متقابلين، لهم أفضلُ اللباس، وأطيبُ المعاش، في جناتٍ وافرةٍ، وعيونٍ جارية، في روح وريحان عند رب راض غير غضبان
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)
أكبر همِّهم أن لايزولَ ذاك النعيم، ولاينقلب عنهم النعيمَ المقيم، فيطمئنهم ربهم بكمال النعيم وثباته
(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)
ويذكرُّهم أن هذا الأمر لايكون بعمل في الدنيا لهم إنَّما بفضل الله ورحمته؛ ليعلم المؤمنُ أنَّ الطريق لذلكم النعيم هو اسناد الفضل للخالق، فهو صاحب الجود سبحانه
(فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فيامن ضاق بصدره عجاجُ الظلم، وكسر فؤادَه الهمُّ والغمُّ، وكِّلِ الأمر للقدير، وأعلم أن يوماً عند ربك للظالمِ عسير، و أنَّ لك عند الله أجراً كريما، ونعيماً كبيرا ، ولغمسةٌ في الجنان تنسيك كل عسير،
فقط بثَّ الشكوى، وأرفع النجوى، فوالذي رفع السماء لينصرنَّ الله تلكمُ السهام، ولسهم الآخرة أشدُّ وأنكى.
-
علي عسيريمهتم بالبلاغة القرآنية