الهوة بين الكلمات و الواقع كبيرة جدا. كالفرق بين أن تقرأ فقرة عن تربية الطفل و بين أن تجلس أمامه لتربيه. و بين أن تقرأ عن كيفية استثمار المال و أزمة مباغتة تنفض كل ما جمعته. الهوة كبيرة لدرجة أنك ستشعر بأن مهمة الكاتب في الحقيقة أن يكذب لا أن يكتب. و أن الكلمات مجرد محاولة يائسة لتلميع الحقائق!
الهوة كبيرة جدا، تقرأ الكلمة لتعيشها بعد عشر سنوات من ذلك، أو تنتقيها لتتجاوز بها ما عشته منذ سنتين. الفجوة بين الكلمة و الواقع مخيفة جدا. ما بين البلاغة و مائدة الحياة تتراص الأطباق كما الكلمات فلا يقع النهم إلا على المغرية منها، و لا تقع الحقيقة إلا بعد أن تجمع الموائد وتتراص الأطباق ثانية للغسيل.
ما بين الكلمة و الواقع، هكتار من علامات الترقيم. تتعجب و تستفهم أو تقف، مكتوف الأيدي، مشلول الأرجل، عليل القلب. تمسك الواقع، تهرب الكلمة. تمسك الكلمة، يهرب الواقع. لعبة مطاردة لا تنتهي..
اللغز ما بين الواقع و الكلمة كما بين الرجل و المرأة، غامض، لا تفهم أسبابه و لا دوافعه. لا تفهم لم على الكلمات أن تلعب دور المحقق، و لا لم على الواقع أن يرضى بما أباحته الأيادي من التفسير...
الهوة، كأن تأخذ ورقة و قلما و تكتب بعد أنا كلمات لتعي بعدها أنك لست ما كتبته، و أنك تستطيع أن تكون في كل ما كتبته النقطة في آخر السطر لا الكلمة.
الهوة مخيفة و الوعي بها مخيف أكثر. تعرف قيمة الكلمات، الصحيحة منها، المناسبة منها، كيف تحيي، كيف ترفع، كيف تشفي. و تعرف أن الكلمة المتوحشة تقطع أشجار غابة كاملة دون فأس، كما قد يفعل بالروح واقع موحش.
ما بين الكلمة و الواقع مساومة خفية، تشعر حين تقرأ جملة أن صاحبها ساوم الكلمات كثيرا، حتى يبدو الواقع ألطف مما هو، أو أنه ساوم الواقع كي لا ترسمه الكلمات أكثر شراسة مما عليه.
نهيلة أفرج
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية