علقم بلدي أحلى من عسل البلدان ..
كانت تلك هي الجملة التي تسللت إلى خاطري وأنا أحزم حقيبة سفري، لتتردد طول الطريق المؤدي للمطار، نحو الرحلة رقم . . . في اتجاه بلاد العجائب، ألمانيا، وفي كل مرة كانت تهمس لي نفسي ، بل عسل البلدان أحلى ..
وما إن فردت الطائرة جناحيها، وغادرت أرض الميلاد، حتى لم يعد لتك الجملة أي معنى، حيث غرقت في التفكير فيما أستقبل من أمري، وتجاذبني شعور بفرحة آنية ورهبة آتية.. إلى أن
حلت لحظة نزولي من الطائرة لتشكل دهشة فلسفية بامتياز ، وجدتني فجأة في متاهة لا تنتهي وما ظننتني سأخرج من ذلك المطار الفسيح، كنت الوحيدة المتوترة من بين كل أولئك الركاب من حولي ، لكني خرجت ، وانطلقت، لتستقبلني شمس فرانكفورت بحيائها المعهود من خلف عمارات عالية راقية ، كادت تلوي عنقي من فرط معاندتها للسماء ، وتمهدت لي أرصفة أرضها الأنيقة ، فمشيت بخيلاء غريب حين غمرتني أجواء المدنية الحديثة ،وغرتني بسحرها الأبيض النظيف، فقلت في نفسي فهذا إذَا هو عسل البدان ...
لم تمض أسابيع قليلة، إلا و ماعدت أجد من تلك الرهبة شيئا ولا من ذلك السحر أثرا ، اعتدت كل شيء من حولي واعتادني كل شيء ، ولعل أرصفة الطرقات الممهدة بانسجام هي أكثر ما ألف وقع خطاي من كثرت ما قطعتها طولا وعرضا ... صرت أرى الأشياء من حولي كما يراها أهلها وصرت أمشي، بل أجري كما يجرون أتكلم كما يتكلمون وآكل وأشرب كما يفعلون ... صارت مائدة إفطاري وغذائي وحتى عشائي جرمانية القسمات ، وما أحسبني إلا قد عوضت كل ما فاتني في الصغر من بروتينات الحليب والقشدة الحقيقين واللحم الأحمر الخدود ، ونلت ثأرا من الشوكولا الناعمة ...
تهت مع التائهين وخضت مع الخائضين إلى أن حل أول يوم من أول رمضان ... كل شيء بدأ عاديا ومعتادا حتى حلت ساعة الإفطار ، فإذا بلون الدنيا يتغير في عيني وبمعدتي تقفل باب شهيتها وبجفوني تفتح نوافذها لدموع أحر من جمر الغضى ، ظننتها ستنتهي وما انتهت ...
أين أسرتي الحبيبة فردا فردا ، أبي ، أمي، أخي المشاكس وأختي ، توأم روحي ... ؟! أين مزاح والدي مع أخي الأصغر ... حين قال له مثلا مرة ، يوم حَق عليه الصوم ، وصدع رأسه بالسؤال على الساعة، إذهب يا بني وأفطر، فقد حق لك ذلك ، لأن الصوم مرفوع عن المجنون ...
آه يا إلهي، أنا وحدي لا أكفي لألتف حول مائدة فتسمى مائدة رمضانية ربانية !
فجأة لم أعد أستلذ طعم السكون الذي أحببته هنا من حولي، وطار بي الحنين إلى ضجيج الكبار والصغار ذكورا وإناثا ، متسارعا في البيت وخارجه فلا يسكنه إلا صوت الأذان ممتزجا بصوت الزواكة ؟ أين تلك الفرحة التي كانت تنتابني كلما انطلق ندير الإفطار ذاك ، فأنطلق معه انطلاق أسير فك من بعد طول قيد و جوع. وعطش ... فرحة ما بعدها فرحة ... وما هذه المائدة الغربية الغريبة ؟
أين المسمن ، البغرير ، سلو والزميطة، و باقي الشهيوات ... وأين حريرة أمي ؟
وأين " بوطاقية عامر شباكية " ؟
وماذا بعد الإفطار ؟ أين جبال الأواني المتراكمة المنهكة حقا، الآن فقط صار لها معنى عندي وقبول ..
وهل سأرتدي جِلْبابي المغربي الأصيل وأذهب إلى المسجد في طهر وخشوع وأمان كما كنّا نفعل بعد كل فطور ومعنا الحاجبان ؟
وأين لمة النساء والفتيات الرائعة بعد ذلك في دوائر ملهيات بصناعة العقاد الموروثة عن يهود مدينتنا الحبيبة …
كم بكيت كثيرا في ذلك اليوم على نفسي و عليك يا رمضان ؟
ثم مرت أيامه سراعا بلا طعم ولا نكهة إلا ما حاولت قدر استطاعتي أن أخلقه من نفسي وبنفسي من عطر ونفحات ، كما اضطر أن يفعل كل فرد من الجالية المسلمة هنا في هذه المدينة الضاجة بالجنسيات ، وكل يلغي بلغوه ...
فرانكفورت عاصمة ألمانيا الاقتصادية لا تحابي دينيا أحدا من تلك الجنسيات السبعين على الأقل ، وتحتفظ بسمتها المسيحي بطقوسه وشعائره الخاصة مع طغيان لمظاهر العلمانية المحايدة . هنا أعلنت حرب نفسية باردة مستميتة ضد الاهواء و الشهوات فكل شيء مباح ولا رقيب الا الرقيب ولا مانع الا المانع وما أصعب وأشقى أن تسبح ضد التيار ... الخمر مباحة ليلا و نهارا والزنى والدعارة متاحة سرا وجهارا لا أدري ما يصنع هذا الجيل العربي المسلم الفتي الصاعد الذي لم يتأصل ويتعمق في الاسلام بمبادئه وتعاليمه وشعائره ... ، والمدينة خاوية على عروشها من مظاهر الحياء، أينما تولي وجهك فتم فساتين قصيرة مفتوحة من كل جانب ملتصقة تظهر قوام الجسد بكل تضاريسه وتموجاته تمشي صويحباته أمامك بلا استحياء وإن رفعت نظرك قليلا عنهن سقطت عينك في فخ صورة من الصور التجارية على الجدران وفي الحافلات والقطارات والمحطات ... لتجذب ناظرك لأحدث مايوهات الصيف القادم بألوانها الزاهية وتقطيعاتها المتماهية ، ولكم سهوت وأنا امرأة في قوام بعض الموديلات الشقراوات والسمراوات الرشيقات ، فما بالك بإخوتنا العرب والمسلمين الصائمين ؟ وهم أزيغ عينا وأميل طبعا للنساء .. ولا تكاد تصوم أعينهم إلا بشق النفس و عظيم عناء ...
أتذكر جيدا مزاح ألمانيين ذات يوم على لباس أحدى النسوة التي لبست سروالا أبيض ناصعا فوق لحم عار تماما ، بلا فاصل يستر ما تبقى من عرض، فقال لصاحبه هذا حل فزورة أن تلبس سروالا دون سروال ... وضحكا من ذلك وانصراف إلى حال سبيلهما ... ولو كانا صائمين لما انصرفا بلا أعطاب ...
هذا حالنا وحال رمضاننا هنا ، نتقاسم معه حر الغربة ونار الاغتراب ، تركنا وراءنا كل شيء حلو ، جذورنا أفراحنا أتراحنا إخفاقاتنا ونجاحاتنا، أحبتنا وأحبائنا ، ونزلنا بهذا البلد السعيد بغير رضانا ، لأن الوطن لم يعد للجميع ، وكف أن يسع الجميع فشبعت فيه بُطُون دون بُطُون وأمنت فيه نفوس أمنا ماديا ومعنويا دون نفوس ..
والغريب أن أوطاننا التي لفظتنا لم ينفعها رمضانها الأصيل في إقامة بعض العدل الاجتماعي ، وهاذي الأوطان التي احتوتنا لم يمنعها رمضانها المغترب من إقامة الكثير منه ...
ولعمر الله لغربة الطقوس أهون من غربة النفوس ...
ولا يهون طعم المر على الإنسان إلا مذاق الأمر منه
التعليقات
هذه العبارة إبداعية في انتقاءها وعمقها ودقة وصفها وبساطتها.
كنت أظن طويلََا صحة عكسها لكن مقالك سيدتي جعلني أعيش الغربة في رحلة عبر الخيال.
هوّن الله على كل مغترب وبارك لنا في شهرنا الفضيل.... بوركتِ وبورك قلمكِ ورُزقت روحك نعمة السلام.
.رمضان كريم وكل عام وانتم بالف خير...