معترك الإنزياح في توظيف غير المباح... خمريات أبو نواس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

معترك الإنزياح في توظيف غير المباح... خمريات أبو نواس

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 23 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 29 يناير 2023 .

معترك الإنزياح في توظيف غير المباح..

*خمريات أبو نواس*

..هيام فؤاد ضمرة..


للشعراء حالات نفسية ومزاجية عجيبة، كثيرا ما تخرجهم عن حدود العقل والمنطق لأسباب قد نجدها نحن الذين نصدر أحكامنا من على بعد غير مقبولة شرعا ولا اجتماعا ولا منطقا.

فالخمر مادة مخدرة للجهاز العصبي ومتلفة للعقل، تتسبب بحالات إدمان عند تكرار تعاطيها، فيصعب التخلص منها والابتعاد عنها، تعتبر مبددة للمال، مضرة بالأحوال، مذلة لصاحبها على أغلب الأحوال، متعدية على حق أفراد الأسرة بالانتفاع بمالهم، مضيعة للعقل وتوازن التصرفات، مؤدية إلى سوء اتخاذ القرارات، مبددة لطاقات العقل والجسد، تتخاذل همم متعاطيها فينصرفون عن الاسترزاق ويتكاسلون عن القيام بأي عمل فيه جهد أو وعثاء، لهذا تم تحريم تناول الخمر على المسلمين أو تصنيعه أو خدمة متعاطيه، هو في واقع الحال مادة غير مسموح التعاطي بها ويعتبر متعاطيها منبوذاً اجتماعيا.

وأعجب لشعراء تغنوا الراح وكأنهم يلجون جنة محاسنها، مأخوذون بجمع زهر أفنانها، مطروبين لآلات القنان، مستجيبين لتمايلات الحسان، يترنحون مستمتعين عابثين، محلقين بعوالم تهيوءاتهم وخيالاتهم، واهمين بأن كؤوس الراح تمنحهم الانتشاء ترفع عنهم همومهم وأتعابهم بعاجل السراء.. فلمتعاطي الخمر أحوال نفسية وشخصية قد تجعله غارق بنفسه مستغرق بابتعاده عن بيىئة مجتمعه، يجد بالخمر ملجأ لدفن أسراره.

ومثلي يبدي الشاعر السروي تعجبه من تهافت الشعراء على تعاطي الخمر مدعين أنه يستخرج بهم ابداعاتهم، فهو بالنسبة لهم معين على الإلهام، كإطلاق كيوبيد لأسطورة السهام في قلب المستهام، فيا له من إلهام.. فيقول السروي:

عنيتْ بالمدامةْ الشعراءُ = وصفوها وذاكَ عندي عَناءُ

كيف تحصيلُ علمها وهي = موتٌ وحياةٌ وعلة وشفاءُ

فهي في باطنِ الجوانحِ نارٌ = وهي في ظاهرِ المحاجرِ ماءُ

حلوةٌ مرة فما أحد يدري = أداءٌ خصوصها أم دواء

انخرط غالبية شعراء بنو أمية وبنو العباس في مخمصة شرب الخمر، وهم يطلقون لألسنتهم لججا مما يمارسه ندماء الراح المخمورين في ليالي الأنس الداجية، فقد اقترنت مشارب الندماء بالنساء من الجواري، وآلات العزف والمجون، وأحيانا ممارسة فجاجة اللسان الفاقد قدرته على التوازن، دون تأرجح أو استفاضة تبجح,

أشهر من مارس جنون إدمانها: أبو نواس وديك الجن والأخطل والبحتري، وابن المعتز وابن الساعاتي والعسكري وابن وكيع، وتاج الملوك وأبي الفضل بن سلامة.. وغيرهم

بعض الشعراء مارس شرب الخمر وتغنى شعره تحت تأثيرها، وبعض آخر مارس التغني بالخمر مجازا، متخذا مما عرف من تأثيرها والانتشاء بها تشبيها لحالة العشق والهيام، أو مزاولة لتعبيرات الحب والغرام، فالحب كما الخمر يُذهب بالعقل والإدراك، ويأخذ من العقل جانبا فيزيحه عن المنطق في كثير من حالاته، يغرق صاحبه بحالات فرط التشبب والملام، وسهر الليالي العتام، يجافيه نوم الأنام، بتفكير ولوعة واحتدام مشاعر.

لم يسلم شعراء الحداثة من استدراج حالاتها في أشعارهم، لتوصيف الحالة التي هم عليها وما بهم من عشق وغرام، فقد انخرط بالتغني بها غالبية الشعراء، كالشاعر حافظ ابراهيم، ومحمود سامي البارودي، والشيخ محيي الدين بن عربي وقائمة من الشعراء تطول.

ويرى النقاد أن الخمرة دخلت كمادة محفزة للشعر المتحرر من الأعراف وواحداً من أغراضه، وأبو الهندي غالب بن عبد القدوس التميمي اشتهر منذ مطلع شبابه بالفسق ومعاقرة الخمر وفساد الأخلاق رغم كونه شاعرا بارعاً يجيد الشعر ويردده بقوة جمالية واضحة، تمثل خمريات الشعر، انطلق لسانه مع ندمائه متمردا على أعراف مجتمعه الذي يحرم الخمر غير وجل ولا هياب، مطلقا أراءه المتمردة، مؤسساً بذلك موقفا وجوديا لدعم أواصر الإحساس الإنساني بالكنونة الشخصية.

يذكرنا هذا بالنوع الساخر من الأدب الذي يتيح للكاتب مزاوله قول أجرأ ما يمكن قوله بالصورة التلميحية الساخرة دون التوضيح، فالإفصاح في القول تنفيس عما هو ثائر داخل النفس، وفي التنفيس راحة نفسية قادرة على إزاحة مشاعر القهر واليأس، فالإنسان يغالب ضغوطه النفسية بمزاولات احتيالية تعينة على قول ما لا يستطيع في الظروف العادية قوله، وهذا دأب أصحاف الفكر التحليلي والتفصيلي.

ربما هذا ما أتاح المجال لاتخاذ ذات الموقف من قبل الشعراء الآخرين ممن وجدوا بالخمر وسيلة تؤهلهم لقدر من حرية القول والفعل خلال ذهاب العقل تحت تأثير الخمرة، وأشهر هؤلاء الشعراء، الشاعر أبو نواس الحسن بن الهاني، شاعر عباسي من أب دمشقي من أصول يمنية وأم أهوازية، سكير بلا منازع منذ مطلع شبابه، ثائر بلا ندم، ونديم بلا تحفظ.

عرف منذ مطلع يفاعته بحبه للعلم وهذا ما لاحظه رب عمله في محل العطارة فشجعه وأسدى له النصح بالانتظام مع شيوخه، في الأخص حين ملاحظة امتلاكه قوة الذاكرة في الحفظ، وذكاء متقدم، فأصبحت لديه معرفة جيدة بأحكام القرآن الكريم والفقه وعلم الحديث، تمكن من إجادة اللغة العربية بطلاقة لسان وطرق تعبير قوية، وقدرة على نسج الشعر بجماليات تركيبة وجديد صوره وتفرده بالتجديد.

امتلك شخصية جريئة مكنته من تخطي حدود الجرأة إلى التهور والخلاعة، مما عرضه عدة مرات للزج به في السجن لبذاءة لسانه، لاستنكار الآخرين عليه مدى جراءته،

توفى والدة فيما كان طفلا صغيرا، وقيل افترق عن والدته مغادراً الديار إلى غير رجعة، نما شاباً وسيم الملامح، جميل الشمائل، منسدل الشعر غزيره، أبيض البشرة، ألثغ اللسان، في صوته بحة وفي نظرته للذكاء لمعة، وببنيته طول فارع.. فانتقلت به والدته إلى البصرة، زجت به في مجالس العلم والعلماء وهي تمني نفسها أن يكون أحد علماء أمته، فنبغ بغالبية علوم زمانه، إضافة لإجادته العزف على العود، وهو ما أهله لأن تتشكل به عوارض نفسية تعظم به أناه، وتشكل به للمباهاة مسعاه، ليأخذ صفة النرجسية بصورة تعتبر متجاوزة عن الطبيعة، ربما لكونه ابن وحيد وسيم الطلعة، ذكي اللفتة، يتيم لأم أهوازية، كل هذه الظروف طبعته بطابع مميز عن أقرانه، جعلته يشعر بتميزه عن الآخرين، فرأى بنفسه ما لم يره في أقرانه، اجتمعت بشخصيته دلالات النشأة البيئية التي تتعدد فيها الثقافات والمميزات، مما أصابه ذلك بشعور التفرد والتميز، فأصابه التيه وجره للمجون مع شعوره بمحاسن ما يمتلك من مميزات عن غيره.

أحب جارية تدعى جنان هام بها وملكت عليه مشاعره، حظيت بنصيب كبير من أشعاره، فكان يتغزل بها ويوليها كل اهتمامه، خاصة وهو تحت تأثير الخمر، فنظم بالغزل الكثير ورغم ذلك فإلمامه العلمي والمعرفي أهلاه لأن يشدو الشاعر في غالبية أغراضه الشعرية، كالغزل والمدح والهجاء والرثاء والعتاب والفخر، لقلب بصاحب الخمريات ففي الخمر تجلت ملكته الشعرية وعبقريته بصنعتة، وجزالة تعبيراته، وسهولة ألفاظه، وابتعاده عن التكلف، حتى أخذت خمرياته باب جديدا مستقلا بهذا النوع من الشعر.

جرأة أبو نواس جعلته يتخطى حاجز الحذر، ويتغزل بالغلمان على طريقة شعب الزط الهندي الذين جاءوا مهاجرين من الهند إلى البصرة، مما وصف بأنه يمارس مجونا حافلاً بالشذوذ، ومن شكك بهذا اعتمد على مبدأ يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، لأنه في الغالب كان يتمثل الحالة ولا يمارسها

يقال أن أبي نواس لم يكن متأكدا من نسبه أو أن نسب ابيه يعود لليمن، أو أن نسبه لم يكن بذي قوة أو شهرة، ما جعله يميل نحو الخمر والتنقل بين البلاد، يهرب إليها من واقع صعب يعايشه، أو يعاقر كأس المجون هربا من واقعه، بل إن بعض الدارسين راح يشكك في تصرفات أبي نواس الأخلاقية لملاحقته النساء من الغواني، لحرمانه من الرعاية الرشيدة صغيرا، لأن أمه كانت منشغلة بالتجارة لنساء المنطقة لتؤمن رزقها وولدها.

النقل المتذبذب لسير الشهيرين من الشعراء يضعنا أمام تحليلات لا تختلف بغموضها والتباسها عن سواها، فإننا نراوع بين تحليل المعلومة المتوفرة وما يقر في بالنا نتيجة تحليل ذات الشخصية من خلال صفاتها ومؤشرات شخصيتها لنصل إلى نتيجة يتقبلها عقلنا، عملية التعاطى مع المعلومة الناقصة تلزمنا القيام بمحاولة ملئ الفراغ مما هو غير واضح، من خلال حكم ليس قطعيا لكنه محاولة لكشف حقيقة شخصية هذا الشاعر أو ذاك، وعلى الرغم من أن الشعر ديوان العرب، إلا أن نقل سير الشعراء كان يشوبه الكثير من الغموض لتداخل الحقيقي مع غير الحقيقي، فما هو معروف أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون، وتحليل شعرهم لسبر شخصياتهم لا ينبئ كليا عن حقيقة شخصياتهم، أو سبر حقيقتهم، لهذا آمل أن يأتي تحليلي قريبا من الحقيقة.

.الشخصية المستفزة دوما تلقى تشويها من الناقلين، حتى لو كان الناقلون من صنفه بالتردي، فالإنسان بطبعه ميال لاتهام غيره لتبرئة نفسه وإبعادها عن الشبهات، لكن أبو نواس إبن لمرحلة شاع بها تعاطي المسكرات لشدة اختلاط العرب بالفرس آنذاك، واختلاط ما تعودوا عليه من نبوذ ولن نقول شذوذ بالممارسات من خلال التعامل مع المسكرات تحديداً، فأبو نواس إبن مرحلته من المحتم أن يكون متأثر جدا بمفاهيم مجتمعه أو عاداته، والشاعر قد يلبس نفسه ثوب غيره من قبيل المباهاة والتمثل، وعلى هذا لا نستطيع أخذ شعره كتهمة ضده، إلا أن روح السخرية في شعره ينبئ بطبيعة لا أبالية تجاه قوانين المجتمع المتعارف عليها، تلك المتوائمة مع الشرع، واستغراقه بالتغني بالخمر وليالي المجون وصقل شعره بما سمي بالخمريات، كونهم اعتبروه أكثر الشعراء تطرقا للخمر وتأثيراتها على المزاج وتغييرها للأحوال، من خلال ما تمنحه من نشوى مثيره للنجوى، ووصف ليالي الأنس مع الجواري الحسان، والوقوف على القضايا من باب السخرية، والتعاطي شبه اللا أبالي في منهج رؤياه للمواقف والأحداث.

غلبة الثقافات الشائعة بذلك الوقت، من مثل غلبة الموالي على الحياة العامة والسياسية، وارتفاع قدر البرامكة بين أجنحة الحكم، خلال حكم الدولة العباسية، والاختلاط الفارسي، والتغييرات المجتمعية التي حصلت باختلاط الشعوب والأعراق بعاداتهم وثقافاتهم في بلاد ما بين النهرين، على وجه الخصوص مدينتي البصرة وبغداد حاضرتي ذلك الزمان ومقصد لهذا التجمع، إضافة لهجرات الزط الهنود نحو الشرق، وزيادة نشاط الترجمة والعلوم، والتوسع الثقافي من خلال التنوع بالأجناس والأعراق، كلها ساعدت على تشكيل مجتمع جديد فيه من غرائب هذا الاختلاط ما ترك أثره على الكثير من نواحي الحياة في دولة العباسيون، وأبو النواس واحدا من مجتمع تلك الظروف وملامح ذلك الزمن، حيث تتبدى هذه المعالم جميعها واضحة في شعره، دليل سعة بثقافته وإلمام ووعي بالوضع العام.

فثقافة ذلك الزمان تعتبر ثقافة معقدة، تجمع عدد من الثقافات انصهرت في بوتقة مجتمعية واحدة فيها من المتناقضات الكثير، فلا غرابة أن تنشأ ممارسات غريبة على مجتمع مسلم له مبيحاته ومحرماته، ثقافة شرقية، ثقافة هندية، ثقافة فارسية، وثقافة تركمانية، وهو ما أطلق عليه الغرب بمجتمع ثقافة الألينزم، لاختلاط كل هذه الثقافات بقواعد فلسفية يونانية وأخرى رومانية قديمة تركت لها أثرا هي الأخرى على مجتمعات تلك الأقوام ولو ضئيلا.

من وسط هذه التشكيلة العجيبة، وهذا الخلط المتنوع من الثقافات، بحضور حالة الاستغراق بملذات الحياة، والتناحر على مراكز القوى ومواقع السلطة، مع ممارسة الغريب من العادات وارتخاء الضوابط الأخلاقية، نهض شعراء تلك الفترة بفنيات شعرهم، فتنونا بجودته وجماليات التجديد فيه، مثلهم في ذلك مثل الزهرة التي تتحدى حالة الانجماد، لتخترق طبقة الثلج تنهض من تحته بزهرة تفتنك بجمالها، فقد جاء دور الشعراء بذلك الوقت ليلعبوا دورا ايجابيا في تخفيف حدة المتغيرات.



  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 23 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 29 يناير 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا