البلايا تحن إلى اللبيب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

البلايا تحن إلى اللبيب

  نشر في 27 ماي 2016 .

يتولد عن البلايا التي تفجأ المسلم اللبيب في مسيرة حياته ثمرتان هما : الصبر و الرضا. أما الصبر فلعلمه بأن قضاء الله لا راد له،وأن الحق سبحانه هو وحده القادر على أن يرفع عنه البلاء، ويعيد لحياته الطمأنينة والسكينة فيصبر .وأما الرضا فليقينه بأن الله تعالى هو أرحم الراحمين، وأن في طيات المحنة نعمة وثوابا وحكمة،فيقابل البلية بارتياح ضمير،ويسأل ربه أن يرزقه البصيرة كي يتلمس تجليات حكمته سبحانه فيما قدره على عبده من محن ونوائب .

فما بال شبابنا اليوم يدفع بحيرته و تساؤلاته إلى حد الاعتراض على البلاء بزعم أن أهل المعصية أولى به،وأن من آمن و أطاع ( يجب ) أن يعيش في نعيم ورغد دون أن تعترض حياته نكبات، أو تعتري سماء وجوده غيوم و اضطرابات؟ أهو منسوب التربية الإيمانية الذي بات يشهد انخفاضا ملموسا على مستوى الفكر و السلوك ؟ أم هي القيم التي تتذبذب ناشئتنا بين الولاء لها و استبدالها بأخرى تتلاءم مع متطلبات العصر ؟

لا شك أن الأسرة ببعض تمثلاتها الخاطئة،و الإعلام بمقولاته و أدواته المجلوبة من ثقافة أخرى قد أسهما في حدوث التباس لدى المسلم المعاصر بشأن علاقة الأسباب بالمسبب،إذ بات البلاء في عرفه ثمرة معصية أو ظلم واعتداء على الآخر،وبالتالي لا يليق بمن تجنبهما أن يكون محل ابتلاء.هذا الفهم الذي لا يستقيم مع ما تقرره الآيات القرآنية و السنة النبوية يحتاج إلى مراجعة متأنية تعيد لفقه الابتلاء اعتباره في وجدان المسلم وفكره وسلوكه،خاصة وأن الجيل الناشئ لا يخفي عجزه عن تبين الحكمة من صور البلاء المتعددة التي يضج بها واقع العالم الإسلامي اليوم،وهل يتعلق الأمر بتمحيص واختبار لرفع الدرجات،أم بعقوبة عاجلة على ما أحدثه الفرد من فساد و انحراف قيمي ؟!

تُنسب للفضيل بن عياض قولة طريفة تحيل على ما ينبغي أن يتمتع به المسلم من قراءة موضوعية للمُلمات التي تربك سير حياته اليومية.يقول الفضيل"إني لأعصي الله فأعرف ذلك من خلق خادمي وحماري " أي أنه يستشعر مخالفته للمنهج في تجليات وأفعال قد لا يعيرها الآخرون اهتماما من قبيل تلكؤ خادمه وعصيانه،أو عناد حماره !هذه الدقائق والتفاصيل التي لا نلقي بالا لأسبابها،كانت عند الفضيل وأمثاله من الصالحين مدعاة للتساؤل حول سر حدوثها، ومقدمات أو إشارات يجدر التنبه لها و التقاط الحكمة منها بما يدفع لمحاسبة النفس ومراجعة السلوك. كل ذاك الاستشعار و التنبه مرده إلى إلمام بفقه البلاء و الابتلاء،وإدراك أن لكل ما يصدر عن المرء من أفعال،سيئة أو حسنة،ثمارا عاجلة وأخرى آجلة،و الحازم من يسارع إلى التوبة و الاستغفار قبل أن تثمر زلاته بلاء أدهى وأمر !

لكن ليس كل بلاء ثمرة لمعصية،بل إن منه ما يندرج ضمن لوازم اصطفاء أفراد مخصوصين للقيام بمهام النبوة،وأداء الرسالة وتبليغ دعوة التوحيد.وما من نبي أو رسول إلا وغدا الابتلاء قرين رحلته في مواجهة العقائد الفاسدة،و التصدي للانحراف الفكري والسلوكي في محيطه الاجتماعي،وضمن هذا السياق ورد الحديث الشريف"أشد الناس بلاء الأنبياء،ثم الأمثل فالأمثل".لذا فالبلايا في هذا المقام،مقام النبوة و الاصطفاء،هي تشريف ورفع للدرجات،وتقديم النموذج المثالي الذي يقتدي به المسلم في مواجهته للشدائد.

ومن البلاء ما يندرج ضمن لوازم الاختبار و التمحيص الواجب قبل إثبات صفة الإيمان،وجدارة الانتساب إلى خير أمة أخرجت للناس.ومنه ذاك الذي لقيه الصحابة في صدر الإسلام،وما يتعرض له حتى اليوم كثير من العاملين في الحقل الإسلامي،قيادات وأتباعا،وزمرا و أفرادا آمنوا بأن الفكرة الإسلامية يمكن أن تتجاوز حدود المنبر وحلقة الوعظ،لتسهم في تحسين الظروف الاجتماعية،وتحقيق العدل وضمان حقوق الإنسان.إنه بلاء لتثبيت الإيمان،ورفع الدرجات،وفصل الشوائب عن النسيج حفظا لتماسكه ! يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ( الصبر في القرآن) " إنما كانت المحن ضرورة لأهل الإيمان لجملة معان وحكم نبه عليها القرآن،منها: تطهير الصف المؤمن من أدعياء الإيمان من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض.فإبان العافية و السراء يختلط الحابل بالنابل،و الخبيث بالطيب،وإنما يقع التمييز بين الأصيل و الدخيل بالمحن و البلاء، كما يتميز الذهب الحقيقي من الزائف بالامتحان بالنار" .

ومن البلاء ما ينطوي على مدلول تربوي وبُعد قيمي يحقق للشخصية المسلمة من التوازن و سمو النفس ما لا تدركه عبر صيغ التعبد المألوفة،كما يصقل معدنها و يحررها من آفات الغفلة و الركون إلى الدعة و الملذات.وفي آيات القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة ما يُلمح إلى هذا المقصد :

يقول الله عز وجل مقررا المقصد الأسنى من سنة الابتلاء في المجتمع المسلم (و لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال و الأنفس و الثمرات.وبشر الصابرين) -البقرة 53-

ويقول سبحانه ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم.والله عليم بذات الصدور ) -آل عمران من الآية 154-

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يُرد الله به خيرا يُصب منه" .

وروى الترمذي بإسناد حسن صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ".

إن نزول البلاء بساحة المؤمن يحرره،كما أسلفت،من الجمود على حالة واحدة للتدين لا يفارقها، إذ يُحدث في النفس رجة تستحث صاحبها للتنقل بين وجوه التدين الأخرى التي قلما يلتفت إليها في حال العافية.فلولا البلاء ما تذوقت النفس معاني الصبر و الرضا و الاحتساب،ولا لهجت الألسنة بالدعاء الحار أو تضرعت للحق سبحانه برفع الكرب و دفع المحنة.يقول ابن الجوزي في (صيد الخاطر ) "ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة ويتجنب المحظورات فحسب. إنما المؤمن هو الكامل الإيمان،لا يختلج في قلبه اعتراض،ولا يُساكن نفسه فيما يجري وسوسة.وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه ..والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء".

وردت في ثنايا مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ربه إثر حادثة الطائف عبارة بليغة تتحات أمامها مظاهر السخط و التذمر التي تختلج في قلب المسلم كما يتحات الورق اليابس.عبارة تخفف وقع البلايا وتضيء نبراس العقل ليحث صاحبه على رفع الخلل و الاعتذار عن الزلل:

" إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي".. نعم،لأن البلاء المحض كما يقول ابن الجوزي ما يشغلك عنه، أما يقيمك بين يديه ففيه جمالك ورفعتك.

إن البلايا اليوم تحن إلى اللبيب الذي يستحضر هذه المعاني و الدقائق،فيتلمس المنحة في طيات المحنة،ويستحضر لحظة البلاء أن الآمر بذلك هو أرحم الراحمين !



   نشر في 27 ماي 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا