يعود فراس السواح في آخر كتبه الموسوم بـ"الله و الكون و الإنسان" ، ليجمع أهم تحليلاته للأديان تَاريخاً و أفكاراً و عَقائِدَ و تصوراتٍ في كتاب واحد ، و هو عبارة عن حوار ماتع (سؤال- جواب) ، إذ يُصَرِّح السواح في بداية الكتاب على أنه إجابات عن الأسئلة الشائعة حول الأديان و ما يحف بها ، وهي الأسئلة التي تطرح عليه في كثير من لقاءاته الأكاديمية أو الإعلامية .
دار الحوار في المحور الأول حول "الدين و الفلسفة" ، حيث صرح السواح بأنه فتن بالفلسفة في سِنِيّ شبابه الأولى ، غير أن اهتمامه انتقل إلى الدين و البحث الفكري و العلمي في الأديان ، لأن الفلسفة حقل يتضمن آراء و أحكام على المواضيع التي تدرسها ، و غالبا ما تكون هذه الأحكام غير متوافقة مع الحس المشترك الإجتماعي ، حيث يصبح بذلك المشتغل بالفسلفة في مجتمع مُتَخَلِّف مهدد بالإزراء و التكفير أو حتى النفي و السجن و ربما الإغتيال (و كم قتل الهمج من فيلسوف) ، و ذلك ما حصل لمواطنه "صادق جلال العظيم" الذي حُوكم و سُجن بسبب كتابه "نقد الفكر الديني" ، و لإبعاد نفسه عن هذه المهازل قرر السواح التخصص في علم الأديان بالضبط في حقل "فينومينولوجيا الأديان" ، أي ذلك الحقل الذي يعتمد على منهج لا يصدر أحكام على الدين (كما تفعل الفلسفة) ، بل يدرس فقط معناه في مظاهر وعي المؤمنين و المتدينين ، عن طريق طرح أسئلة حول معاني الدين دون التطرق إلى هل هو حقيقة أم أوهام ، كل ذلك كي يتفادى السواح التصادم مع الدين و المتعصبين من المؤمنين به .
يضيف السواح بأن الفلسفة هي حكمة شخص واحد أما الدين فهو حكمة شعب بكامله ، و من هنا يقترح بأننا إذا أردنا التعرف على حكمة الشعوب فيجب البحث في أديانها لا فلسفاتها ، أي في حكمة مؤسسي هذه الأديان ، حيث يشير السواح هنا أولا أن ظاهرة "مؤسسي الأديان" ظاهرة حديثة لا يمكن تتبعها فيما بعد أواسط الألف الأول قبل الميلاد ، إذ إن الدين في صيغته الأولية لم يؤسسه فرد (نبي) بل الجماعة كلها ساهمت في ابتكاره ، و ذلك يظهر من الطابع الجماعي للطقس الديني البدائي ، و كمثال للديانات التي لم تؤسس من طرف شخص واحد لدينا الهندوسية و أديان الشرق الأوسط للسومريين و البابليين و كذا ديانات مصر القديمة و ديانات شعوب الأمريكيتين ، بالإضافة إلى الديانات القديمية للسكان الأصليين لأوستراليا و افريقيا ، ثم من بعد حدث تطور ما فطفت ظاهرة المؤسيين في الشرق الأوسط الذي سيعرف ديانات توحيدية منذ الزراديشتية و المانوية و المندائية و الإزيدية ثم اليهودية وصولا إلى الإسلام و البهائية .
ثم يفصح السواح عن أن النص الديني لا سلطة له ، بل السلطة للعقل الذي يفهمه بأشكال مختلفة ، و ذلك ما يعني أن النص لا يعني كلام الله الناجز مهما اعتقد بذلك المؤمنين ، بل "الله لا يعبر عن نفسه بالكلمات" ، و إنما بوحي يحمل دلالات و معاني مقدسة ، ذلك ما يدفع السواح إلى ترجيح أن الوحي الذي هو حالة وجدانية لا يصل إليها إلا الأنبياء ما هو إلا مجرد التقاط النبي لمعاني يُبلورها إلى كلمات تدون في كتب مقدسة ، من ذلك فإن الأفيستا و الثوراة و الإنجيل و القرآن و غيره ، ليس كلام الله (الله لا يتكلم و ليست له لغة) ، و إنما كلمات تحمل معاني الوحي ، و من ذلك جاء كل كتاب مقدس بلغة النبي أي أن هذا الأخير يتلقى معاني و يحولها إلى كلمات مفهومة في لغته و لغة قومه ، فالله لم يتكلم مع زرادشت بالفارسية ، و مع موسى بالعبرية و مع عيسى بالسريانية و مع محمد بالعربية ، بل الله متنزه عن التلفظ حيث أن اللغة صفة بشرية لا تنطبق على الله ، و ممن تقدموا بهذا التأويل قبل السواح إمام الحرمين الشريفين "أبو المعالي الجويني" و هو أحد أبرز علماء أهل السنة و الجماعة في القرن الخامس ، ناهيك عن أئمة المعتزلة .
ينتقل الحوار في المحور الثاني إلى الحديث حول "الدين و الحضارة" ، حيث يؤكد فيه السواح أن الإنسان كائن ثقافي ، و السلوك الثقافي هو كل سلوك غير فطري أو غير حادث بسبب دافع طبيعي ، من ذلك فإن الدين جزء من ثقافة الإنسان ، هذا الأخير سيمر اعتقاده الديني بفكرة محورية في الأديان و هي "الإله" بعدة أشكال قبل الشكل الذي هو منتشرة وفقه الآن ، حيث اعتقد الإنسان أولا بأن هناك "قوة سارية" في الكون هي التي تحرك ظواهر الوجود ، ثم انتقل اعتقاد الإنسان فيما بعد إلى "تشخيص هذه القوة في شارة مقدسة" كرأس ثور أو دب أو نصب حجري أو هيئة أُنثوية و نحو ذلك ، و هذا رافق اكتشاف الزراعة أي في أواخر العصر الحجري الحديث و قسم لا بأس به من عصر النحاس ، إذ كانت تمارس طقوس تَقَرُّبِية للقوة السارية بحضرة هذه الشارات ، و من ذلك يعيد السواح تصحيح مفهوم "الوثنية" التي لا تعني عبادة شيء مادي ما في ذاته ، بل تَوَسُّلُه فقط للتقرب من القوة السارية التي تتجاوز هذا التمثال أو الصنف أو الصنم ، يقول السواح: "الوثنية هي بمثابتة النافذة التي بفتحك لها ترى الشمس ، لكن تبقى الشمس شمسا و النافذة نافذة" ، إذ يؤكد بذلك أن الوثنية لا تقل قيمة عن أديان التوحيد أو غيرها من أشكال محاولة إعتناق المجهول ، ثم بعد ذلك سوف تتشخص القوة السارية في "آلهة" و ذلك في عصر النحاس ، الذي شهد اكتشاف الكتابة و تميز بتغير كبير في الحياة الإجتماعية لشعوب الشرق الأدنى التي ستشهد ثورة مدينية كبرى ، هكذا ستتحول السلطة من الإختيارية إلى الجبرية ، و ببناء قصر للحاكم سيبنى معبد للآلهة ، و سيتحول الشامان أو الساحر إلى كاهن كبير موظف له سلطة رمزية و يساعده كهنة أدنى مرتبة في السلك الكهنوتي ، و به ستأخذ القوة السارية شكل آلهة مشخصة بعيدا عن الشارات الحيونات ، بل ستبقى جزئيا متمثلة على أحجار أو معادن ، كما يلاحظ السواح أن رجال الدين كانوا بلا عمل (بطاليين) لذلك تطورت كثيرا فكرة الآلهة المشخصة بفضل مجهوداتهم .
يؤكد السواح أن الإنتقال من تصور "الخالق أو المحرك العظيم" في قوة سارية إلى تشخيصه في آلهة ، لم يحدث في كل الثقافات بشكل كلي ، بل إن الثقافة الصينية تثبت تعايش الإعتقاد بمبدأ القواة السارية مع الإعتقاد بآلهة مشخصة ، بعد ذلك يؤكد السواح بأن الدين كان عاملا دافعا للحضارة ، خصوصا "الوثنية" التي كانت فضاءا مناسبا جدا لتفتق الحضارة بكل ما يَحتبِل بها ، غير أنه يلاحظ بأن الدين حينما يتحول إلى سلطة و آيديولوجية تفرض على الناس و تشدهم إلى أفكار بالية ، تتحنط بهذه الطريقة الحضارة و لا تستمر و بذلك يحدث التخلف ، و هو حال المسلمين اليوم ، الذين سعفهم الدين الجديد في البداية في تأسيس حضارة غير أنها ما فتأت تضمحل و تعيد إنتاج نفسها في أقسى صور التخلف و التعصب و الهمجية ، و بذلك فالدين في حد ذاته ليس عاملا للتحضر أو التخلف ، و إنما طريقة فهمه و أسلوب استعماله ، هي ما ينحوا بالمجتمع المؤمن بدين ما في اتجاه التحضر أو التخلف.
يُختم الحوار في هذا المحور ، بتأكيد السواح أن هناك تثاقف بين الأديان التي ظهرت في الشرق الأوسط أو غيره ، حيث استعارت الأديان المتأخرة أساطير و شخصيات الأديان المتقدمة و استزادت فيها و بنت عليها صرحها المقدس ، و هو ما يؤكد المصدر الواحد لكل هذه الأديان ، و هو "وجدان الإنسان" و توقه إلى معانقة اللامادي و اللاملموس الذي تُصَوِّرُهُ بشكل متجرد فكرة القوة السارية ، و من ذلك يصبح لا معنى لدين صحيح و آخر غير ذلك ، فكل الأديان صحيحة و تعبر عن نفس الشعور البشري ، و إن اختلفت في طقوسها و عقائدها فإنها لا تختلف في هدفها السامي الأخير .
في المحور الثالث ، يعرج الحوار إلى موضوع "الدين و الأسطورة" ، حيث وضح السواح أن الميثولوجيا تعني مجموعة أساطير من جهة ، كما تُشير إلى العلم الذي يدرس الأساطير ، و من جهة أخرى تعني الأسطورة قصة مقدسة يلعب أدوارها آلهة كما تقدم معنى رمزيا للعالم ، و هي أحد أهم مكونات الدين بالإضافة إلى "المعتقد" و "الطقس" ، فلا يخلوا تكوين دين من "أسطورة" تختزل تجربة الإنسان مع العالم الموضوعي ، ثم تعيد تقديمه إلى الوعي بعد أن ترتبه بشكل ما ، ثم تضفي عليه تفسيرا لاماديا ، أي إن الأسطورة تقدم للمؤمنين بدين ما صورة رمزية و تفسيرا غير مُدَلَّل (أي لا دليل عليه مجرد كلام يُصَدَّق به و لا يحتاج إلى دليل) حول العالم ، كما لا يخلوا أي دين من "معتقد" يجسد الصرح المقدس لخطاب أو أوامر الآلهة التي يجب على المؤمن التصديق بها و الإستجابة إليها ، ثم "الطقس" الذي يمارسه المؤمنون و يقوي الإيمان بالمعتقد و الأسطورة و يقوي الرباط الإجتماعي بين المؤمنين.
يوضح السواح بأن الأسطورة جعلت الإنسان لا يلتفت إلى إنجازاته ، فقد كَسَفَ الإنسان عن نفسه فرصة رد إنجازات الثورة النيوليتية و الثورة المدينية في الشرق الأدنى إلى نفسه ، بل ردها كلها إلى ما أنتجه خياله من آلهة و أساطير ، إذ تصور الإنسان القديم أن الآلهة هي أول فلاح و هي أول عامل و هي أول مخترع و هي أول مدجن للحيوانات ، بل هي أول من بنى مدن للبشر ، و من ذلك يستنتج أن الأساطير كانت شبه مُخَدِّر للإنسان القديم ، حيث أَنْسَتْهُ أن كل ما هو موجود (من غير الطبيعة) هو من إنتاجه لا من إنتاج كائنات خيالية ، و ذلك ما جعل تاريخ الإنسان لا يفترق عن تاريخ الأسطورة ، بل احتازت هذه الأخيرة منجزات الإنسان التاريخية و نسبتها إلى نفسها ، سيبقى هذا الوضع على حاله إلى حين قدوم القرن 7و6 ق.م ، حيث ستتوقف الأسطورة عن إنتاج معنى العالم و ستعوضها الفلسفة في هذه المهمة ، و من هذا العهد سوف تسكت الآلهة كي يتكلم أريسطو و أفلاطون و سقراط و طاليس و أناكساغوراس (...) ، من هنا سيكتب التاريخ كمنتوج بشري لا منتوج آلهة ، و منذ ذلك الحين ستفتك القبضة الحديدية للأسطورة على فاعلية الإنسان.
و نتيجة لذلك سوف تستقل الأسطورة عن التاريخ ، و سيظهر أوائل المؤرخين الذي سؤرخون لوقائع مرئية لا متخلية ، مثل "هيرودوتس" و "توسيديد" اليونانيان ، و "بروسوس" البابلي بالإضافة "مانيتو" المصري . هكذا ستبدأ الثقة تدب في نفس الإنسان ، و من جهة أخرى سيبدأ البساط يسحب من تحت أرجل و عروش الآلهة الموهومة ، إلى حين سقوطها كليا مع العلم الحديث ، غير أن السواح يلاحظ أن الأسطورة تشتغل في صمت رغم إسقاط سلطانها عن تقديم معرفة حول العالم ، إذ لا زال الكثير من البشر يؤمنون بالخرافات و الخوارق و الأساطير رغم شيوع المعرفة العلمية .
في المحور الرابع ينتقل الحديث إلى "الديانات التوحيدية" ، حيث يوضح السواح كيفية الإنتقال من الإعتقاد بتعدد الآلهة إلى الإعتقاد بإله واحد ، حيث أشار إلى إمكانية تلمس أولى إرهاصات التوحيد في بعض ديانات الشرق الأدنى ، غير أنه توحيد غير كامل و لم يكن اعتقاد المؤمنين بأديان الشرق على الطريقة التوحيدية ، إذ لم يكن لذلك ضرورة تاريخية أو عقدية ، بل ظهر التوحيد بعد بروز ظاهرة "مؤسسي الأديان" (الأنبياء) ، و ظهور أشخاص استثنائيين مثل "زرادشت" الذي عاش في القرن 6ق.م ، و كذا "سقراط" الحكيم اليوناني ، و "يسوع" و "محمد" ، بالإضافة إلى ذلك يحدف السواح "موسى" مؤسس (نبي) الديانة اليهودية من قائمة من دعوا للتوحيد ، فهو شخصية لم تثبت أدلة تاريخية أنها شخصية وجدت حقا ، بل هو شخصية ميثولوجية ، من جهة أخرى فشرط التوحيد الإيمان بوجود إله أخرج الوجود من العدم ، و أن هذا الإله رب لكل البشر ، و هذا غير متحقق في الإله "يهوه" الذي هو إله شعب واحد فقط ، بل و لا يستنكف عن إظهار الكره لباقي الشعوب "عدا الشعب الذي اختاره لنفسه" حسب ما جاء في الثوراة ، و بذلك قررت اليهودية "وحدانية العبادة" لا توحيدية الإله .
يضيف السواح أن هذا الإنتقال رافقته تغيرات كثيرة في شكل الإيمان و طبيعة التدين و نهج الإعتقاد ، إذ إن الدين يتبدى في صيغته الإجتماعية في شكلين هما: "العبادة" و "دين الشعب" ، فكل شعب له دينه و معتقده و لا يكره شعبا ما شعبا آخر على الإيمان بدينه بالسيف ، لأن طبيعة الدين في هذه المرحلة كانت "محلية" أي لكل رقعة جغرافية دين محلي معين تطمئن له دون افتعال حروب لنشره ، فلم يهجم المصريين عن جيرانهم كي ينشروا الديانة المصرية ، كما لم يهجم البابليون عن جيرانهم كي ينشروا دينهم ، كما لم تتحارب شعوب الأمريكيتين من أجل نشر دين ما ، غير أن التوحيد سيضيف "الشمولية" للأديان التي ستظهر في ثوبه ، خصوصا "المسيحية" و "الإسلام" ، و من ذلك أكرهت المسيحيين الرومان الشعوب الأوربية و المتوسطية على المسيحية ، كما اجتاح المسلمون رقعة جغرافية كبيرا ناشرين فيها دينهم بـ"السيف" و مكرهين شعوب هذه المناطق على الدين و على سلطته السياسية ، هكذا فالتغير المهم الذي رافق الإنتقال من التعددية إلى التوحيد هو "الشمولية" الذي رافقتها حروب توسعية لنشر الديانات التوحيدية بالإكراه و العنف أو بالتبشير و الدعوة كما يستعملها المسلمون.
ثم يضيف السواح مستتبعات التوحيد و التي منها ، نزع "الإرادة الحرة" من الإنسان و تقدير الإله كل ما سيحل به ، و هذه فكرة لم توجد في الأديان السابقة إذ إن الإنسان مخير في أمره و ما يقوم به غير مفروض عليه من قبل الآلهة ، كما أن "الأخلاق" مع التوحيد نزع مصدرها من الإنسان و ألصق بالإله ، و هكذا أصبحت الأخلاق ذات طبيعة إلهية يمنحها بمقدار الإله لبعض البشر ، و من جهة أخرى جُعل الشر ميزة للبشر جزئيا و "الشيطان" كليا ، إذ إن الشيطان فكرة زرادشتية في الأصل أي فكرة ظهرب لأول مرة مع أول دين توحيدي ، من ذلك يستنتج السواح استحالة قيام التوحيد كعقيدة دون فكرة الشيطان ، أو قطب الشر الذي يعاكس قطب الخير الكلي الذي هو الإله.
بعد ذلك ينتقل الحديث إلى "التناص بين الكتب المقدسة" ، حيث يؤكد السواح اختلاف الأديان غير أن هناك تناص في كتبهم المقدسة خصوصا كتب الأديان التوحيدية ، و التناص يعني اقتباس الأديان المتأخرة للقصص و الأخبار و الأحداث و الشخصيات عن الأديان المتقدمة ، إذ يمكن إيجاد أهم قصص دين حديث في كتب دين قديم ، مثال ذلك أن الكتاب المقدس الإسلامي (القرآن) اقتبس معظم قصصه و أساطيره و أحداثه التاريخية عن الثوراة بأسفارها القانونية و غير القانونية (و قد وضحنا ذلك في مراجعة سابقة لكتاب "القصص القرآني و متوازياته الثوراتية" لنفس الكاتب)، كما أن الزراديشتية اقتبست من ديانات مصر القديمة خصوصا فكرة الجنة الأخروية و الحساب الذي يقيمه الإله للبشر عن أفعالهم ، و فكرة الملائكة الذي يؤتون عند الأتقياء من الموتى في قبورهم كي يطمئنوهم ، و كذا فكرة الشياطين التي تفتن الأشرار في قبورهم ، هنا أقترح بخصوص "أسطورة الملائكة"، يبدو أنهم نسخة معدلة عن الآلهة الثانوية ، فبما أن "مرحلة تعدد الآلهة لم تعرف الملائكة" ، بل كان هناك إله كبير قوي يخلق من يساعده من الآلهة الصغار الثانويين ، فيبدو أن هؤلاء الآلهة الصغار في مرحلة التوحيد انتقلوا إلى ملائكة و تركوا الألوهية للإله حصرا في الأديان التوحيدية ، الشاهد على ذلك أن الآلهة الثانوية تتشارك مع الملائكة في نفس الوظيفة و هي "مساعدة الإله الكبير" على تنفيذ أوامره و قضائه .
بعد ذلك يتطرق السواح إلى الحديث عن اليهودية التي اقتبست من الزراديشتية الكثير من الأفكار ، و من بينها فكرة "الخلق و التكوين" في ستة أيام و استراحة الإله في اليوم السابع و ذلك ما ستقتبسه منه المسيحية و الإسلام بعد ذلك ، كما اقتبست اليهودية من الزرادشتية فكرة المخلص الذي يظهر في آخر الزمن ، وهو يظهر في المسيحية و أيضا في الإسلام في شخص "المهدي المنتظر" و "عودة عيسى ابن مريم" ، ، إذ تقول الزرادشتية أن زرادشت سيظهر في آخر الزمن ليحارب الشيطان ، و تظهر نفس الفكرة في اليهودية التي تعتقد بظهور المسيح في آخر الزمن كي يحارب أعداء اسرائيل ، كما أن الإسلام لم يستنكف عن اقتباس هذه الأسطورة حيث يؤكد أن في آخر الزمن سيظهر "عيسى ابن مريم" كي يقتل "المسيح الدجال" ، بالإضافة إلى ذلك ففكرة خمس صلوات و صيام شهر في السنة و الوضوء و غيره نصت عنه الزرادشتية قبل الإسلام ، فكل هذا في أصله أفكار زرادشتية .
من جهة أخرىتبنت اليهودية الكثير من بنود الشريعة الزرادشتية خصوا في مسائل المأكل و المشرب و الطهارة و النجاسة ، كما أن هناك مؤثرات لديانات بلاد الرافدين على اليهودية خصوصا في تصور الإله يهوه الذي يعتبره السواح حلقة وسيطة بين الوثنية و التوحيد ، و هو تصور تشكل بفعل التأثر بأديان بلاد الرافدين الوثنية و التصور التوحيدي الزرادشتي للإله ، لذلك جاء تصور إله اليهودية برزخيا بين التصور الوثني و التوحيدي .
بل أكثر من ذلك تدعوا الثوراة الإله بإسم "إيل" و "إيلوهيم" و هو إله مشهور في ديانات الكنعانية ، و هنا يلاحظ إطلاق القرآن أيضا عن الإله كلمة "الله" و "اللَّهم" كما جاء في آيات كثيرة ("اللَّهُمَّ" رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ(المائدة:114) ، و التي هي كلمة معدلة عن كلمة "إلوهيم" التي هي في الأصل جمع لمفرد كلمة "إيل" وهو اسم إله كنعاني ، غير أن امتداد اسم الإله "إيل" لا يعني مطابقته مع إله اليهودية و الإسلام في التصور أو الخصائص ، بل لكلا الديانتين تصورها الخاص عن الإله و إن اقتبست و حَوَّرت اسمه عن الأصل الكنعاني .
تمتد مقارنة التناص إلى "القرآن و الإنجيل" في المحور السادس ، حيث يأكد السواح أن التناص بين المسيحية و اليهودية حدث من أجل إثبات مسيحية المسيح التي يعترف بها و يُنبأ بها الثوراة ، أما الإسلام فقط نشئ في حاوية ثقافية تتشكل من كل من المسيحية و اليهودية و الوثنية ، و ذلك ما شكل له مصادر غنية لإنتاج أساطيره و تشييد صرحه المقدس ، من أجل ذلك مهد القرآن للتناص بينه و بين باقي الديانات باعترافه بأنه مصدق لها و هو رسالة خاتمة لباقي الرسائل و الشرائع (اليهودية و المسيحية درءا للتناقضمدعيا أنها مُحَرَّفة) ، من ذلك يؤكد السواح أن القرآن خاصم اللاهوت المسيحي (العقيدة) غير أنه تناص مع الأناجيل ، و ذلك ما يدرء مسألة تشابل المسيحية بالإسلام على جهة العقيدة ، فلكل منهما اعتقاد خاص بالإله و الطقوس و الفرائض ، غير أن الهوة بين الكتابين المقدسين ليست بكبيرة الإتساع ، لإن مصدر الإقتباس واحد و هو الثوراة ، و من أبرز اقتباسات القرآن عن الأناجيل ، قصة ولادة المسيح أو يسوع أو عيسى ، حيث ولدته أمه بطريقة عذرية دون أن يطأها رجل ، كما أن هناك اقتاباسات قرآنية أحيانا بشكل حرفي من الإنجيل خصوصا بعض أقوال المسيح (قارن إنجيل متى18 :20 مع الآية 7 من سورة المجادلة// متى6: 14-15 قارن مع الآية 22 سورة النور ...) ، أفرد السواح أكثر من 15 اقتباس حرفي لأقوال المسيح من الإنجيل موجودة في القرآن .
بالإضافة إلى ذلك يقتبس القرآن ثلاث قصص لها علاقة بالمسيح من الإنجيل بشكل شبه حرفي و مختصر كما هي عادة القصص القرآني ، و من بين هذه القصص: قصة ولادة "يوحنا المعمدان" الذي يسميه القرآن "يحيى" و هو آخر أنبياء اسرائيل قبل ظهور المسيح ، إذ إن يوحنا ولد قبل عيسى بستة أشهر من أجل التبشير بميلاد المسيح المخلص كما يتنبأ الثوراة ، وهو ما ستقتبسه الأناجيل و بعدهم القرآن ، حيث وردت القصة كما هي في سورتي آل عمران و مريم و هي تسير على التوازي مع ما جاء في الثوراة و الإنجيل . من جهة أخرى يقتبس القرآن ليس فقط من الأسفار الثوراتية و الأناجيل القانونية ، بل يقتبس حتى من الأسفار و الأناجيل غير القانونية أو المنحولة (أي التي لا تعترف بها الكنيسة) ، و مثال هذه الإقتباسات قصة ميلاد مريم ، و سبب ذلك أن الأناجيل القانونية لم تتطرق إلى حياة مريم قبل الحمل العذري ، من جهة أخرى ما يفتئ القرآن إرفاق لقب "ابن مريم" في كل موضع يذكر فيه عيسى/يسوع ، و هي عبارة جاءت في الإنجيل على سبيل بشرية المسيح و هو نفس مقصد القرآن الذي لا يعترف بإلهية يسوع بل يذكر دائما بأنه ابن امرأة بشرية . أما عن قصة الميلاد العذري للمسيح فهي مقتبسة بشكل متوازي مع ما جاء في كل من الأناجيل القانونية و المنحولة (قارن خصوصا انجيل لوقى1: 29-38 مع سورة مريم و آل عمران و بضع آيات من سورة التحريم) .
تتمطط مقارنة التناص بين الكتب المقدسة للديانات التوحيدية إلى "القرآن و الثوراة" في المحور السابع ، حيث يوضح السواح أن أسفار الثوراة القانونية و المنحولة بالإضافة إلى شروح الثوراة مثل كتاب "الهاجاده" ، كلها كانت مصادر أساسية لتدوين القصص القرآني ، إذ إن معظم الشخصيات التي ذكرها القرآن على أنها أنبياء مصدرها الثوراة ، إذ غير شيء ما القرآن في وظيفة هذه الشخصيات ، مثل جعله لأيوب و داوود و سليمان أنبياء و هم في الأصل الثوراتي مجرد مَلِكَين ، و الأول (أيوب) مجرد رجل صالح اختبر الله صبره على الضرر ، من جهة أخرى يشير السواح بأن من ذكرهم القرآن على أنهم أنبياء في الواقع كانوا بعيدين عن الأخلاق و الصلاح ، مثل داوود الذي هو مجرد مُجرم و مُغتصب امرأة (اسمها بتشع) و هي زوجة أحد قادة جيشه (اسمه أوريا الحثي) ، وهي العلاقة الغير شرعية التي أنتجت "سليمان" الذي هو حسب الثوراة ابن زنا ، غير أنه أصبح ملكا صالحا كما يصوره القرآن .
التناص بين القرآن و الثوراة غزير جدا إلى حد قول السواح: "يكاد يكون القرآن ترجمة عربية للنص الثوراثي العبري" (ص156) ، أي أن حوالي 80% من القرآن مؤخوذة من الثوراة و 10% من الإنجيل، تبقى 10% هي ما أضافه القرآن ، و هذه الإضافة تتحدث عن الفرائض و العقيدة و أهوال القيامة و تحذيرات الله للمؤمنين و حروب النبي محمد و بعض أحواله التاريخية ، غيرها من القصص القرآني فكله مؤخوذ من الثوراة و الإنجيل ، و هو ما درسه السواح بشكل مستفيض في كتابه "القصص القرآني و متوازياته الثوراتية" و هو كتاب سبق و أن قمنا بمراجعة مفصلة في مضامينه .
هكذا يتضح وجود تلاقح بين الديانات ، حيث تأخذ الديانة المتأخرة عن المتقدمة ، فمعظم ما جاء في الثوراة كان شائعا في ثقافة و ميثولوجيا شعوب الشرق الأدنى ، و منها الديانات السومرية و البابلية و المصرية القديمة ، هذه الأخيرة أخذت عنها الديانة الزرادشتية بشكل خاص أهم أفكارها ، بعد ذلك ستظهر اليهودية و تقتبس من الميثولوجيا السومرية (انظر في هذا الخصوص كتاب رائع بعنوان "من سومر إلى الثوراة"لفيصل عبد الواحد) ، كما اقتبس الثوراة من العقائد الزرادشتية ، و بعده لم تقتبس فقط المسيحية من الثوراة بل جعلته جزء تأسيسي (العهد القديم) إلى جانب الإنجيل (العهد الجديد) للكتاب المقدس المسيحي ، كل ما ذكر سابقا سنجده مترجما للغة العربية و موضوعا في القرآن ، و هو ما يأكد ليس التناص بحد ذاته و هي كلمة جميلة نسبيا ، الأصح أن نقول "اقتباسات أقرب إلى السرقة الموصوفة دون ذكر المصدر" و هو رأي الباحث "سامي الذيب" الذي اشتغل عن الموضوع بشكل مطول و أفرد له على الأقل 3 كتب .
ينتقل بعد ذلك الحوار إلى "الغنوصية" في المحور الثامن ، حيث يفيد السواح أن الغنوصية ظهرت في بيئة وثنية ، ثم انتقلت إلى باقي الأديان و انتشرت بشكل كبير بين أتباعها ، فأول رجل غنوصي تذكره المصادر هو "سمعان ماجوس" سوري عاش في مدينة السامرة و عاصر السيد المسيح ، و كان يقول سمعان هذا أن الله قوة صمدانية أزلية منغلقة على نفسها في صمت مطلق ، هذه القوة انقست على نفسها فظهر "العقل" و هو مُذَكَّر ، و عن العقل ظهرت فكرة "الإينويا Enoin" و هي مُؤَنَّث ، بعد ذلك أنتجت إينويا قوى ملائكية عملت على خلق العالم المادي ، و من ذلك انشطرت الألوهة إلى شطر علوي هو الأب الأعلى و هو عبارة عن عالم روحاني ، و قسم سفلي و هو عالم المادة ، لكن إينويا فقدت السيطرة على القوى التي أنتجتها و صارت أسيرة لها و بذلك لم تعد لها إمكانية الرجوع إلى الله ، و من أجل تحريرها و إرجاعها إلى ربها ظهر "سمعان ماجوس" كتجسيد لله لتحرير إينويا من قيودها ، لذلك كان يحاول إينويا هداية كل من يلتقيه إلى العالم الروحاني لله ، من أجل منحه الخلاص ، و في هذا الإتجاه سار الكثير من الناس في هذه المنطقة كـ"دوتيسيوس" و "ميناندر" .
يؤكد السواح أن الغنوصية لا تعني التصوف ، غير أن الغنوصية قد تتبدى في شكل تصوفي ، من ذلك ستنتقل الفكرة إلى الإسلام مثلا و سيظهر صوفية كبار مثل "محي الدين ابن عربي" و "الحسين الحلاج" و "جلال الدين الرومي" و "شمس الدين التبريزي" و غيرهم كثير جدا ، إذ إن الصوفية لهم عبادة غير براغماتية أي لا يصلي و يصوم و يقوم بالفرائض الصوفي من أجل نيل جزاء معين ، و إنما الهدف الوصول إلى عالم روحاني صمداني يتحقق للمريد فيه الكشف عن طريق نهج روحي خاص ، من هنا لا معنى لأفكار مثل الجنة و النار فالصوفي غايته أبعد من الدخول للجنة و لقاء الحوريات ، بل هدفه الوصول إلى الله حد الإنسجام مع ملكوته و كيانه النوراني (ليس ماديا طبعا) ، وهي مرحلة لا يصل إليها إلا الأولياء بعد الأنبياء حسب محي الدين ابن عربي .
في آخر فصلين يناقش السواح "صيغ أخرى لمفهوم الله" و "غروب الآلهة" أو الأديان التي تخلت عن مفهوم الإله ، فمن الصيغ الأخرى للوحدانية نجد عقيدة وحدة الوجود في الديانة الهندوسية ، حيث تجمع الهندوسية بين التوحيد و التعدد الوثني ، إذ تصور هذه البرزخية بين التصورين أن هناك إله عظيم اسمه "براهمان" نشأت عنه كل الموجودات التي ترتبط به بقوة "المايا" ، غير أنه إله غير مرئي و بدون صفة ، وأن وجوده يتعين بالنفي لا بالإثبات ، لكنه يتمثل في كائنات إلهية يتعبد إليها البشر و يطلبون منها العون و الخلاص ، و هذا يتحقق لمن اقتنع أن هذه الكائنات الإلهية (هي تماثيل وأصناف في الواقع) ماهي إلا حجاب يخفي وجه الإله الحقيقي ، فمن دأب على عبادتها من خلال رياضات روحية ضمن لنفسه الخلاص من العالم المادي .
من جهة أخرى كسفت بعض الأديان الإله عن عقائدها ، مثل "الجاينية" و "البوذية" و "التاوية" ، و هي أديان تقوم على "مبدأ لاإلهي Atheism" و هذا لا يعني أنها تنفي وجود آلهة ، بل تنفي خدمتهم للكون أي تنفي هذه الأديان "عناية الآلهة بالكون" ، نتيجة لذلك فالعالم أزلي و كل الموجودات قديمة لا تحتاج إلى خالق ، بل الكون يشتغل وفق قوانين ثابتة تنظم دينامية كل الموجودات بما فيها الآلهة إن وجدت ، من هذه الأديان الجاينية التي أسسها "ناتابوتا فاردهاما" الذي اشتهر بعد ذلك بلقب "الماها فيرا" (أي الإنسان العظيم) ، و هو شخص عزف عن الحياة المادية و كان يتجول في غابات الوسط الشمالي للهند عاريا حافيا ، حيث اعتقد أن خلاص النفس يتحقق إذا تخلص الإنسان من حاجات الجسد و الواقع المادي ، ذلك ما مارسه فبينما هو في يوم من الأيام مستغرق في تأمله سطع نور في داخله فصار جينا Jina أي المنتصر على الموت و الألم و حرر روحه في عالم المسمارا ، و أودعها في عالم التغير الدائم ، بعد ذلك سيجمع حوله المريدين فيعلمهم نهجه الروحي هذا و بذلك ستشتهر طريقته في شكل دين لا إله فيه . نفس الشيء سيختلق مثله بوذا الذي سيحاول تخليص النفس من براثين الجسد و العالم المادي و الإرتقاء بها إلى عالم "النيرفانا" أو عالم الإستنارة ، و ذلك يحصل بواسطة تأمل عميق في ثمانية درجات ينتفي فيها الماضي و المستقبل و كأن لحظة التأمل حاضر أبدي يوصل في آخر درجة إلى النيرفانا ، التي يتحقق فيها سمو الروح و انعتاقها إلى عالم نوراني الأبدي ، بالإضافة إلى ذلك تسير في نفس الإتجاه الديانة التاوية ، و هم كلهم ديانات تخلوا عن مفهوم الإله و العبادة ، و اهتموا فقط بارتقاء روحاني إلى عالم رمزي يستنكف فيه الجسد و غرازه عن الحضور .
بهذا نكون قد وصلنا للنهاية ، و نعيد تنافيا لعادة كتب فراس السواح التي لا تتضمن خواتم ، أن الكتاب أغزر من أن نجمعه في مراجعة ، خصوصا إذا تعلق الأمر بكتب فراس السواح التي يستفيد منها القارئ تقريبا مع كل صفحة ، كما أن الإستفادة تتحقق من جهة أخرى ، فالقراءة في علم و تاريخ الأديان "مُرَبِّية" للإنسان أكثر من أنها تثقفه ، فهذه الكتب ناجعة جدا في تهذيب أي متعصب لدين واحد و مدعي بوهمية باقي الأديان ، فكل الأديان من طينة واحدة و تعبر عن نفس الشعور الإنساني ، وذلك ما يدفع إلى احترام كل ذي دين أو لادين كيف ما كان ، دون رفع دين و الحط من باقي الأديان.