الخريف كما عرفت
ثم أننا كالخريف
نشر في 15 أكتوبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
رأيتُ الخريف للمرة الأولى في عامي الدراسي الأول ..رسمت المعلمة شجرة تتساقط أوراقها وقالت أن هذا هو الخريف، مرحبًا سيدي الخريف، تبدو باهتًا ومغمورًا بلا ملامح ..زمهرير الشتاء وحرُ الصيف، كلاهما يبدوان أكثر تميزاً ونشاطاً منك، الربيع مبهجٌ في ذاته ومعناه لدرجة تُلهيك عن معرفة مدى تميزه ..ماذا عنك يا سيد "خريف"، أين يجدونك ويلحظونك ؟ هل تساقط أوراق الشجر كافي لمعرفتك؟
لا أذكر أني قابلتُ الخريف بعد ذلك .. ربما لأنه كان دومًا على عجلة من أمره، يأتي ويرحل دون أن ألقاه، أو لأنني لم أبحث عنه يومًا وبطبيعة الحال لم يبحث هو عني ...حسناً، أعتقد أنني مؤخرًا ميزتُ الخريف وعرفتُ عنه ماهو أهم من شجرة وورقة...... إليكم السيد "خريف"
ذاك الفصل الواقع بين حرارة الصيف وبرد الشتاء ..مائل قليلاً إلى سكون الشتاء، مائل أيضاً إلى نشاط الصيف يتخلله فترات غير طويلة من التحديق في حالك وما تؤول إليه أمورك، وربما التحديق فيما حولك بنظرة فاحصة كأنما تشهد ظاهرة "الحياة" للمرة الأولى، القوم يتحركون هنا وهناك، لكنهم – بطريقة ما – أكثر هدوءاً واتزاناً ..تماماً كفيلم صامت ملئ بالحركة والنشاط وتستطيع فهم كل أحداثه تقريبا من مجرد التحديق في وجوه الممثلين لكن هذا لا ينفي كونه فيلم صامت ..يقصر زمن النهار شيئًا فشيئًا بينما تمتد معانيه في النفوس وتتسرب إلى خلجات النفس حتى يُسلمها هدوء الخريف لسكون الشتاء .
ولو صح أن يتمثل الإنسان فصلًا من فصول السنة لما وجدنا له أنسب من الخريف في اغترابه وغرابته وقوعه المتكرر بين أضداد الأمور وفقره الدائم إلى منتهى يسكن إليه..إلى ما يشبه وطن وصديق وانتماء ينقذه من لحظات فراغ نفسه ونضوب طاقته وشتات هدفه ..يحتاج إلى ما ينتشله من ضياعه وحيرته، وهو لا يحب الإعتراف بحاجته تلك رغم وضوح أثرها واكتمال علاماتها وربما هو عاجز عن تمييز حاجته وتحديدها أصلًا ..وربما ليس عاجزًا ولا مضطرباً ولكنه مسكين، أليس قصور المرء عما ينبغي حصوله هو المسكنة في أجلى صورها، أليس الشوق المتزايد إلى ميناء ترسو عليه – بطريقة ما- مسكنة.
كان العرب يطلقون لفظ "مساكين" على شمس الشتاء إذا طال غيابها، غياب الشمس لا يعني ضعفها أو قصورها بل يعني أن طبقاتًا كثيفة من السحاب منعت وصول شعاعها ..نحن أيضًا "مساكين" ، كثرة الأسفار تقلل شعورنا بأنها أسفار والمسافر – كيفما كان – لابد له من دليل ومرشد يهتدي به ويأوي إليه
في زمن مضى كنت أعتقد أن النباتات أذكى منا ..تعرف مواقعها من العالم دونما حيرة ، تضرب جذورها في مواقعها وتهتدي للشمس دونما عناء وتنمو نحوها بلا تكاسل ..ثم تموت – إذا ماتت – وهي واقفة دون إنحناء ..أما نحن فنبذل عمرًا طويلًا في سبيل إدراك مواقعنا ولا نكاد نستقر فيها حتى نعاود أسفارنا .. يقول شيخي : إذا كان لابد لنا من السير فلا أقل من مقاربة الخُطى كلما ابتعدنا، لعل سفرنا هذا يهون وبُعد مسافاته يُطوى .
-
Mariam Mostafaنحن نكتب لننتصر ..لأننا أقوى من كل ما نستطيع التعبير عنه فالحروف هي انتصاراتنا المتواضعه على ضعفنا قبل كل شئ