ذكريات طالب في بلاد الجرمان
فرانكفورت .. جوهرة الطائرات
نشر في 16 يناير 2017 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
في الدقائق القليلة التي سبقت هبوط الطائرة ، كان منظر الشمس و هي تميل إلى المغيب في كبد الغيوم فوق السماء جميلا جدا ، منظر شده جدا ، و سبح خالقه كثيرا ، حتى أنه نسي خلال الدقائق كل شيء…
هبطت الطائرة شيئا فشيئا ، و خاطب ربان الطائرة المسافرين بالجلوس في مقاعدهم ، و ربط أحزمتهم بانتظار الهبوط الذي بدأ تدريجيا ، الشيء الذي أحس به يعقوب ، كما الصعود ، في بطنه التي أحس بها خاوية مرة أخرى ، غير أن الهبوط كان أخف وطأة عليه و على نفسه ، و ترائى له مطار فرانكفورت عملاقا بشكل جميل ، جعله يحتقر مطار مدينته الذي خال يوما أنه مطار بمواصفات المطارات العالمية ، و ها هو الآن أمام تحفة معمارية كبيرة و ضخمة ، تربض فيها الطائرات من مختلف الأشكال و البلدان ، ها هي أول لحظاته في ألمانيا … بدأت أول لحظات حياته هنا .
بدأ في جمع أغراضه ، و اعتنى أكثر بأوراقه الرسمية ، و ورقة إركابه ، حطت الطائرة فوق أرض المطار ، و بدأت تخف سرعتها الهوينى ، حتى توقفت تماما . أخبرت المضيفات المسافرين بعدم مغادرة مقاعدهم ، حتى سمح للجميع بمغادرة الطائرة ، كانت أعداد المسافرين الكبيرة تصيبه بالضيق خاصة حينما يتهافتون كلهم على باب الطائرة ، مسرعين ، كما لو أنهم فارين للتو من حريق مهول ! بقي في مقعده ، يشاهد أضية هذا المطار العجيب ، كانت الحرارة منخفضة في ألمانيا ، بل لعلها متدنية جدا هي كانت ، بالنظر إلى طريقة لبس من يضطرهم عملهم إلى التواجد خارجا برفقة الطائرات الناعسة هنا ! كان كل شيء منظما هناك ، حتى الطائرات صفت كل حسب وجهتها ، و لم يقدر نظره على إدراك كل تلك المسافة التي بني فوقها المطار ! كل هذه الطائرات ، آتون و عائدون ، كل له قصة ، كل له حكاية ، هنا ، في هذا المطار ، تلتقي أفراح اللقى بدموع الفراق و الرحيل ، هذه هي الدنيا ، لا يدوم حال فيها ، من كان يخال أن يغادر هو عشه الذي فيه ترعرع ، ليجد نفسه بعد رحلة جوية دامت ٣ ساعات و نصف الساعة هنا في بلاد الجرمان ، هو الذي كانت كل حياته إلى حد اللحظة بين الكتب و التحصيل ، و بين الكتابة ، و الوحدة الحبيبة .
ـ سيد مهدي
قطع عليه حبل تفكيره صوت السيدة هولغا ، و هي تقول له مبتسمة :
ـ ألا تريد مغادرة الطائرة ؟
ـ أوه ، لم يبق سواي ؟ لم أرد أن أزاحم الناس في الخروج من أجل ذلك بقيت هنا في مقعدي
ـ كيف كانت الرحلة سيد مهدي ؟ سألت و هي تهم بحمل الحقيبة الصغيرة التي أركبها معه الطائرة ؟
ـ لا سيدتي ، اتركيها لي لأحملها ، استلها من بين أيديها برفق شاكرا لها صنيعها ، أوه الرحلة نعم ، كانت رحلة جميلة ، مريحة ، نعم مريحة سيدتي ، شركتكم ممتازة فيما يخص الخدمات !
ـ يسعدني سماع هذا ، الم أقل لك أن الأمر لا يستدعي الخوف ؟
ـ حسن ، و لكن الصعود شيء مخيف فعلا ، قال ضاحكا
ـ ستتعود الأمر بعد أن تدمن ركوب الطائرة ! هيا ، اذهب ، لعل أهلك بانتظارك !
ـ كلا يجب علي أخد طائرة أخرى من أجل الوصول إلى بغيتي !
ـ أي مدينة تقصد ، لو سمحت لي بهذا السؤال .؟
ـ هانوفر !
ـ همم نعم ، أقصى الشمال ! مدينة جميلة ، لكنها صغيرة بالمقارنة مع فرانكفورت !
ـ نعم صحيح ! الآن يجب علي المغادرة ، شكرا جزيلا سيدة هولغا ، و أتمنى أن نلتقي في المرة القادمة
ـ أتمنى ذلك أيضا ، حظا موفقا و بداية حياة سعيدة أتمناها لك في ألمانيا !
ـ شكرا سيدتي مع السلامة .
ما هذا الذي يفعله ، ثرثرته تجلب له الكثير من الأصدقاء ، الشرطي في بلاده ، و ها هنا مضيفة الطيران ! و لكنه كان فرحا بما يحققه له لسانه ، جميل جدا أن تدخل في نقاشات مع الآخرين ، حتى إذا ارتاحوا لك ، تسللت كما يتسلل النور عند المغيب ، و تركت دواخل قلوبهم ، أعطر الذكريات عنك !
اجتاز ممر العبور بين الطائرة و المطار ، وجد في نهايته رجل أمن ألماني فبادره :
ـ ألا تريد مغادرة الطائرة ؟ أم تروم العودة من حيث جئت ؟
ـ عذرا سيدي ، هل يمكنك التكلم بشكل أبطأ فلغتي الألمانية لا تساعدني الآن على فهمك بهذه السرعة !
ابتسم الشرطي ، و قال بشكل أبطأ :
ـ و الآن تفهمني أيها الولد ؟
ـ نعم الآن أفهمك ! كلا لا هذا و لا ذاك ، فقط لم أرم أن أزاحم الناس عند الخروج !
ـ آه حسنا ، هات جوازك إذا تكرمت .
أعطاه جوازه ، و أشار له أن اتبعني ، تبعه يعقوب إلى أن وصلا إلى شباك ، تجلس خلفه شرطية حدود ، ناولها الجواز ، ثم ودعه ، شكره يعقوب مبتسما ، و حول عينيه في الحين إلى شرطية الحدود ، رمقته بابتسامة ، و هي تنظر إلى وجهه و جوازه ، و تقلب أوراق الجواز إلى أن وقعت على تأشيرة الدخول ثم سألته بابتسامة طردت التوثر الذي يجتاحه غالبا أمام رجال الأمن :
ـ ما هي وجهتك أيها الشاب ؟
ـ هانوفر سيدتي
ـ جئت من أجل الدراسة اليس كذلك ؟
ـ بلى !
ختمت جوازه بخاتم كبير ، و ناولته إياه وودعته ، و تمنت له حظا سعيدا في ألمانيا ، ودعها شاكرا!
ما هذه الطيبة و الإبتسامات العريضة التي توزعها الشرطة على الوجوه هنا في هذا البلاد ! كانت هذه ثاني المقارنات الغير الصحية التي طرقت قلبه في هذه الساعة ! ما هذا الإختلاف الشديد في التعامل في مطار بلده ، و مطار ألمانيا ؟ كيف أن رجال الشرطة في مطار بلده ، ينظرون إليك نظر من سرقت منه شيئا ثمينا ، و أتيت على قدميك إليه تحت رحمته ، و كيف أن رجال الشرطة هنا ، تحس معهم أنك في مأمن ، و الحق أن هذا هو دور وظيفة الأمن ، هو أن يحس المواطن بالأمن برفقته ! خرج من الباب المخصص لخروج المسافرين ، و حيث أن رحلته لا تزال بعيدة بساعتين تقريبا ، و حيث أن حقيبته ستمر مباشرة إلى الطائرة الثانية ، قرر أن يتجول في هذا المطار شيئا يسيرا .
كانت علامات الإنبهار في وجهه ، تثير الضحك حقا ! هذه الأشياء التي يراها لأول مرة على أرض الواقع ، لم يراها إلا في الكتب و التلفزيون ، ما هذا المطار العملاق ، و ما هذه الدقة المتناهية في النظافة و الصنع ! ما هذا النظام الطبق حد التقديس ؟ محلات تجارية هنا وهناك ، مطار كبير من ٣ طوابق منها طابق سفلي يضم مطاعم ، و محلات للوجبات الخفيفة ، و محلات للترفيه ، و مقاه ، كان جائعا ، فقصد مطعم الوجبات الخفيفة الشهير مكدونالد ، لكنه تذكر مسألة اللحم الحلال فعدل عن فكرته ، ثم ترائى له من بعيد بائع للأكلات التركية ، قصده حتى وقف أمامه و سأله :
ـ هل هذا اللحم حلال يا سيدي ؟
أجابه الرجل التركي بألمانية بطعم التركية قائلا :
ـ طبعا ، نحن لا نبيع إلا اللحم الحلال !
ـ حسنا ، بكم هذه الوجبة عندكم هنا ؟
ـ خمس أوروهات !
ـ حسنا ، أعطني وجبة لفرد واحد !
ـ هل أنت مستعجل يا سيدي ؟
ـ كلا لا تزال في جعبتي ساعتان ، خذ من الوقت ما يكفيك !
ـ حسن !
انتظر جالسا عشر دقائق ، فأتى له العامل بوجبته ، و كان لأول مرة يتذوق الطعام التركي ، و ليته لم يتذوقه ، لأنه سقط هائما على وجهه في حب هذه الوجبة التي يطلقون عليها هناك : كباب دونر ، أكل حتى امتلأ بطنه ، و لم يخف إعجابه بما قدمه الرجل ، فقال له : لقد أبدعت في إعداد الطعام ، وجبة شهية جدا !
ـ شكرا لك يا سيدي هذا من كرم أخلاقك !
ـ تفضل هاك ورقة من ١٠ أوروهات !
ـ هاك الباقي ، طاب مساؤك سيدي !
كانت الوجبة عبارة عن خبز تركي مستدير ، حشي داخله بالكثير من اللحم المطهو على الطريقة التركية ، ثم أظيفت له سطة خس و خيار ، و صلصة يونانية ! لم يتذوق في حياته كلها مثل هذه الوجبة بهذه اللذة و الطعم !
ودع الرجل ، ثم قصد أعلى المطار ، حيث رام أن يصلي صلاة المغرب مع العشاء ، لم يدر فعلا ، هل يقبل على الصلاة أمام الملأ كما صلى في مطار بلاده أم لا ، على الأقل في مطار بلاده كانت الأغلبية مسلمة ، و كان من الطبيعي نسبيا أن يقوم شخص بالصلاة أينما كان ، أما هنا فالأكثرية لا تدين بالإسلام ، و لكن تشبثه بالصلاة شجعه ، ذهب إلى الأعلى ، و اختار مكانا خال شيئا ما من الناس ، أراد أن يبقي على حاجته في أيد أمينه ، فقصد شرطية هناك في المطار ، و ناولها محفظته قائلا :
ـ أريد أن أصلي ، و لا أجد مكانا أحفظ فيه حقيبتي ، هل يمكنني أن أتركها معك ؟
ـ ما الذي تحتوي عليه حقيبتك ؟
لا شيئ ، أوراقي و كتاب القرآن !
ـ همم إذا لا يمكنني لمس الحقيبة أيها الشاب ، فأنا غير مسلمة ، و لا أقدر على لمس كتاب القرآن حتى و إن كان بداخل حقيبة ، و لكن ، تعال معي إلى مكتبي و ضعها بنفسك هناك على أن تأتي بعد أن تصلي و تأخذها من هنا ، قالت مبتسمة !
فاجأه ردها كثيرا ! إنها تعلم أنه لا يجوز لها كغير مسلمة أن تلمس القرآن ، و لكنا بلباقة ، اختارت له حلا آخر ، و كان حلا مجديا فعلا !
اتجه نحو القبلة بعد أن سأل أحد المسلمين عنها ، و صلى صلاته ، حتى سمع نداء المظيفات ببدأ عملية الإركاب إلى مدينته التي يرومها ، ذهب إلى الشرطية ، و شكرها على حسن تعاملها ، داعيا الله لها أن يهديها إلى الإسلام
ـ
الحلقة القادمة : هانوفر
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة