عادل قاسم و قصيدة النثر السردية . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عادل قاسم و قصيدة النثر السردية .

  نشر في 25 غشت 2016 .

 

( اذا كان الشرط الظاهري لقصيدة النثر هو انها شعر يكتب بالجمل و الفقرات فان الشرط العميق لها هو التكامل النثروشعري و لقد تمكن عادل قاسم من تحقيق هذين الشرطين في قصائده .) أ غ الموسوي .

نحن حينما نذكر عادل قاسم فانا نعني به ذلك الشاعر الواسع التجربة و الشاسع الابداع . الذي تترامى تجربته عمقا في الادب و الفن من حيث عمق النص و شكله و من حيث عمق الفكر و بنائه . و حينما نذكر قصيدة النثر فانا نعني بذلك الشعر النثري المكتوبة بالصيغة العالمية التي خرجت من اسقاطات و نداءات الموسيقى العربية ، تلك القصيدة او ذلك الشعر الذي يكتب بالنثر العادي الخالي من كل تفنن شكلي او بصري ، و المعتمد بشكل كلي في شعريته على جوهر اللغة و الاسلوب و الافكار .

يقول بودلير ( من منا في لحظته الطموحة لا يحلم بمعجزة الشعر النثري ، من دون وزن و لا قافية ، سلسل بشكل كاف و صارم بشكل كاف لأن يعبر عن غنائية النفس ، و عن تموج الروح ، و عن وخز الوعي ). و تقول باربرا هننغ (Babara Hening ) ( ان قصيدة النثر هي جنس أدبي متاخم و الذي طوّع لأجل محاكاة الوعي . ذلك الوعي الذي يتقابل فيه القارئ و الكاتب سطرا سطرا و فقرة فقرة ، حيث تكون الطبيعة شعرية لكنه يطرح بشكل افكار و كلام عادي جدا . و يقول زيمرمان (Zimmerman ) ( اذا كنت متضايقا من التشطير فان ما تحتاجه قصيدة النثر ، ان الأساطير و الحكايات قد تكون شعرا نثريا . النثر هو اللغة العادية التي يتكلم بها الناس و يكتبون بها ، انها لا تتعامل مع التشطير كوحدة مكونة و لا تعتمد التكرار و لا الوزن و الموسيقى الشكلية . قصيدة النثر هي كتابة متواصلة من دون تشطير ، متكونة من جمل و فقرات و قد تكون قصيدة النثر فقرة واحدة او فقرات . و موسيقى الافكار و داخل النص العميق هو الذي يصنع الايقاع . و لا بدّ من ايقاع الافكار و العمق و لا بد من ان تكون مضغوطة الافكار و مكثفة و الا فانها فستكون نثرا و ليس قصيدة نثر ). و في الويكيبيديا (Wikipaedia ) ( ان قصيدة النثر تبدو كالنثر لكنها تقرأ كالشعر ، ليس فيها نظم لكن فيها تشظي و تكثيف و صور و استعارة ، قصيدة النثر هي هجين بين الشعر و النثر ) . و تقول مليسا دونوفان (Melissa Donovan ) ( النثر ما يكتب باللغة العادية بالجمل و الفقرات ، و الشعر بطبيعته يعتمد على الخصائص الجمالية للغة ، و قصيدة النثر هي شعر يكتب بالجمل و الفقرات من دون نظم او تشطير . لكنه يحتفظ بخصائص شعرية اخرى كالتقنيات الشعرية و الصور و التكثيف ) . و التعريف الأخير الذي صرحت به مليسا دونوفان هو الذي تعمل به المجلات و مركر الجوائز و التجنيسات الادبية بخصوص قصيدة النثر ، حتى أن مجلة متخصصة بقصيدة النثر تقول ( لا بدّ لقصيدة النثر ان تكتب بالجمل و الفقرات و اننا نعتذر عن ننشر ما يكتب بالتشطير و ان لم يكن موزونا ، لاننا لا نعد ذلك قصيدة نثر ) .

هذه التعاريف هي ما استقر عليه تعريف و مفهوم قصيدة النثر في السنوات الاخير و كثير منها قد نشر و كتب في السنتين الاخيرتين . وهذا ما نؤكد عليه دوما و ننعى على القصيدة العربية تأخرها في هذا المجال ، الا انّ مجموعة تجديد الأدبية التي تبنت كتابة قصيدة النثر بالجمل و الفقرات من دون تشطير و كتابة قصيدة النثر الأفقية قد خطت خطوات كبيرة نحو هذه الصيغ النموذجية . و نحن نقول دوما انّ للشاعر ان يكتب ما يريد و بأي شكل و من دون قيود او تصنيفات ، و له الحرية الكاملة في اظهار نصه كيف يشاء ، و انه غير مطالب باتباع شكل او نموذج معين ، فالشعر و كما يقول ونتر (W J Winter ) ( هو التعامل الرقيق مع اللغة ) ، فكل تعامل رقيق و جمالي مع اللغة بقصد الشعر فهو جميل و انساني . لكن حينما يكون الحديث عن شكل معين و تبني شكل معين ، فانه لا بد من الواقعية و الموضوعية ، و ما هو واقعي و منطقي و حقيقي ان قصيدة النثر شعر يكتب بالكلام العادي و بالجمل و الفقرات من دون تشطير و لا تفنن بصري ، و غير ذلك لا يصح ان يسمى قصيدة نثر ، نعم هو شعر نثري و شعر نثر حرّ لكنه ليس قصيدة نثر .

مع كل هذا الفهم الواقعي لقصيدة النثر ظهر اتجاه نقدي معاصر ، بدأت بوادره في نهاية تسعينات القرن الماضي لكن ظهر للسطح و صار محورا للنظرية النقدية المعاصرة على يد الرائد فيه البروفسور بيتر هون (Peter Huhn ) الذي نظر و طبق اليات التحليل السردي في الشعر ، و ناقش ان التحليل السردي و علم السرديات يتميز بالشمولية بحيث يمكن من خلاله تناول جميع اشكال الأدب بما فيها الشعر الغنائي ، و كتابه ( التحليل السردي في الشعر الغنائي ) الصادر عام 2005 كان فتحا كبيرا في هذا الاتجاه ، و صارت الان مدرسة كبيرة تعمل على تتبع التقنيات السردية في الشعر الغنائية و متخصصة في هذا الشأن ، معتمدة على منهج ( السرديات العابرة للاجناس )( (transgeneric narratlology .و اهم تلك التقنيات السردية التي برهنوا على وجودها في الشعر الغنائي هي التتابع و التوالي (sequentialty ) و التوسّط والابراز (mediation ) و التواصل و الافصاح ( articulation ) ، و ادّعوا ان هذه العوامل الثلاث متوفرة و متحققة في كل عمل ادبي سواء كان شعر غانيا او قصة او دراما ، لذلك بدأوا يناقشون في واقعية هذا التقسيم و واقعيته ، وهم يقولون انهم لا يريدون ان يحولوا جميع الأدب الى سرد ، الا ان نتائج نظريته تنتهي الى هذا الأمر . و في الحقيقة و من خلال تبعي الدقيق الى جوهر قضية الأدب و الظاهرة الأدبية ، ان الكتاب الأدبية في جوهرها لا تخلو من سرد ، و كما يقول بيتر هون ( التتابعية تظهر في السرد القصصي من خلال شخصيات في احداث و مثله ايضا يظهر في الشعر في تتابع التطورات التي تحصل لمكوناته الشعرية ) . و لقد بينا في مقالات سابقة و خصوصا في حديثنا عن البوليفونية و عن التأريخ النصي انّ في القصيدة وحدات و كيانات رمزية و استعارية يمكن ان تتخذ شكل شخصيات لها صوت و ارادة و رؤية فيتحقق تعدد الاصوات ، و يمكن ان تتطور مع زمن النص تظهر و كأنها تمر بتتابع حدثي فيتحقق تأريخ نصي لها ، و القصيدة المستقبلية التي تتحرك فيه كيانات النص و وحداته التكوينية الشعرية خير مثال .

من هنا و من كل ما تقدم و من كل ما سياتي به الزمن من تنظيرات و اتجاهات ادبية فانني أرى ان مستقبل الأدب هو قصيدة النثر السردية أو بعبارة ابسط هو ( الشعر السردي ) بمفهومه المعاصر اي الشعر الذي يكتب باللغة العادي . فاضافة الى توفيره خاصية الزخم الشعوري المحمول باللغة العادية و التي هي من ميزات ادب مابعد الحداثة ، فانه يوفر العذوبة و الجماهيرية ، و يمثل الجمالية الصعبة التي لا يتقنها الا القليلون ، لذلك فانك تجد من لا يمتلك تجربة لا يصمد ، و الحجج كثيرة و الشكوك تطرح لكن حقيقة الامر و الذي صار معلوما هو صعوبة و احترافية كتاب شعر بصيغة نثر عادي بالجمل و الفقرات ، لكن مجموعة تجديد قد اثبتت و بما لا نقاش فيه ان الشعر الجميل و العالي المستوى يمكن ان يكتب بلغة عادية و بالجمل و الفقرات ، و من هؤلاء الشعراء الذين برعوا في كتابة قصيدة النثر السردية الأفقية هو الشاعر عادل قاسم . و لا بدّ من الاشارة ان الشاعر العراقي عادل قاسم متمكن في الشعر العمودي الموزون و مبدع في شعر التفعيلة و كاتب فذ للقصيدة الحرة ، و لكنه ابدع و تعمق في اسلوبيات قصيدة النثر السردية الافقية ، و صار بحق أحد اركان هذا الشكل ابداعا و تنظيرا و تمهيدا و ترسيخا .

ان اشتمال قصيدة النثر السردية على عاملي العذوبة و الزخم الشعوري هو الحقيقة الكبرى التي تجعل من هذا الشكل مبهرا و قريبا و واضحا و مفهوما . و لا ريب ان العذوبة هي نتاج نثرية قصيدة النثر ، و الزخم الشعوري هو نتاج شعرية قصيدة النثر ، و بالعذوبة و الزخم الشعورية يتحقق التكامل النثروشعرية ، حيث يتجلى الشعر الكامل في النثر الكامل ، و ببساطة اذا لم تشتمل القصيدة الافقية على عذوبة و سلاسة و على زخم و تكثيف شعوري فانه لا تحقق غاياتها . لقد استطاع عادل قاسم ان يحقق قصيدة نثر عذبة و سلسة و مكثفة و بزخم شعوري و توصيل مشاعري قوي ، مما جعل قصيدته محققة للتكامل النثروشعري الذي هو الشرط الجوهري لقصيدة النثر . اذا كان الشرط الظاهري لقصيدة النثر هو انها شعر يكتب بالجمل و الفقرات فان الشرط العميق لها هو التكامل النثروشعري و لقد تمكن عادل قاسم من تحقيق هذين الشرطين في قصائده .

و لحقيقة ان العذوبة و السلالة و الزخم الشعوري و المشاعرية امور – و ان كان لها حضور و تمظهر في النص – الا انها في جانب كبير من ادراكها تعتمد على المتلقي ، اي ان فيها شيئا من الانطباعية و الذوقية التي تباين فيها الافكار و الاراء و يكون للفردية مدخلية فيها ، و لذلك و لأجل تجاوز هذه الفردية و الانطباعية لا بدّ من تبين الخصائص النصيّة الموضوعية الباعثة و المسببة لتلك الادراكات . و لقد بينا في مقالات سابقة ان التاثر النفسي بالنص و مظاهر الانبهار و الدهشة و الاعجاب انما هي امور نفسية فسلجية تحدث بسبب عوامل و وسائط نصيّة و بشكل منضبط و محدد و هي ليست امورا خاضعة بالكلية الى تكوينية الفرد و مزاجه و معارفه ، بل انها تنتج عن حقائق ظاهرية وهذا ما نسميه ( فيزياء الجمال ) وهو تفسير فيزيائي و موضوعي للانطباعية و الذوقية .

ان العذوبة و الزخم الشعوري الذي يدركه المتلقي انما تحصل بسبب عوامل نصية خارجية ، و عادة ما تكون معقدة و متعددة الجوانب الا ان هناك دوما عامل تأثيرية رئيسيا في احداث تلك الانفعالات النفسية . فالعذوبة تحصل بسبب عوامل نصية اهمها وضوح البناء الكلامي و تواصله و قربه ، و الزخم الشعوري يدرك من خلال الطاقات الشعورية لمكونات النص من مفردات و تعابير و من خلال تجربة الشاعر العميقة في اللغة و شعوره بها . فهنا لدينا خمسة مظاهر نصية خارجية تحقق التكامل النثروشعري باجتماع العذوبة و الزخم الشعوري هي كما يلي :

أ‌- عوامل العذوبة النصية

1- البناء الجملي المتواصل .

2- وضوح الافكار .

3- الرمزية القريبة .

ب‌- عوامل الزخم الشعوري

1- الطاقات الشعورية للغة .

2- الشعور العميق باللغة

سنبحث هذه العوامل و مظاهرها في شعر عادل قاسم و نتبين مديات و تجليات هذه العوامل و تحقيقها التكامل الشعري . هنا لدينا أربع قصائد نثر سردية شديدة العذوبة و عظيمة الطاقة التعبيرية و الزخم الشعوري ، بعضها يصل حد التجريدية ؛ سنتناول تجليات عوامل العذوبة و الزخم الشعوري فيها في الاسطر التالية :-

الزهور البرّيّة

عادل قاسم

حين تغفو الريحُ فوق وجهِ البركة الضاحكةِ ، وتنطلقُ بِرشاقةٍ ورهافةٍ موسيقى الاشجارِ الناحلةَ ،يَستفيقُ المساءُ أخيراً، وتلتمعُ في الافقِ البعيد خلفَ التلالِ النائمة، بقايا الجدائلِ المُشرقةُ للشمسِ وهي تلملمُ برشاقةٍ ثوبها القرمزي الموشى بالبهجة ،وتستكينُ بِدعةٍ في اوكارها الطيور ُ المحلقةُ، بينما تنث عطرَها الزهورُ البريةُ في هذه المهادِ المُمتدة ،تحت زرقةِ النجومِ ووجهِ القمرِ الذي تفيضُ خدودهُ بالذهبٍ في هذا الفضاء الفسيح.

الطائرُ الأخضر

عادل قاسم

كلما حَطَّ على كَتْفي الأَيمن طائرٌ أًخضر، يَسْرقُني من يًقْظًتي. وأُسافِرُ برِفقتهٍ الى حيث يشاء . لمْ أًسْألهُ الى أين؟ أو أًستَفِزّهُ بأسئلةٍ غَبيّةٍ كلما هَدًّمَ جِداراّ أو ثقب زَوْرَقاً، لأنَّ إيمانيَ قاطِع بِحِكْمته،ِ كانَ رفيقاً طيّباً وهادياً لٍسُبل ليسَ بمقدورِ ايِّ إنسانٍ من الإيلاجِ لمُدنٍهاٍ الساحرةً البيضاءً التي تُحُلّقُ في رُباها المَلائكة المُتَرنّمينَ ببهاءٍ ، بعٍذوبة بُحيراتِها وشلالاتٍها اللُجَينيةً ذاتَ الجَدائل المُذَهَبةً، ولا بأًبنائٍها الهُلاميينً الذينَ يُسافرونَ لقمَمِ جبالٍها القرمزية ويعودون بسرعةٍ البًرق . كانَ يَقِصّ عليّ أًبي حكايته المُدهشةً، مُسَجّى حَيثُ قُبلتهٍ المُضيئةً ، وهو يًغْمِضُ عينيهِ الضاحكتينِ، حينها راوَدني شعورٌ عَجيبٌ بأنَّ أبي أَخْذَ يَهْجُر. !..لكن رَسّخَ يَقيني بِحكايتهِ ، الطائرُ الأخضرُ، إِذ حَطَّ على كتْفيَ الأَيمن لِنُعيدَ رِحْلَتنا من جَديد .

الفَزَع

عادل قاسم

ذاتَ ليلةٍ شتائيّةٍ كنتُ أهذي من فَرْطِ الحُمَّى وأنا أرى جَمهرَةً من الرّعاعِ مُدَجَّجين َبسيوفهِم ولِحاهُم الكثَّةِ يَقْطَعونَ أزقَّةَ المدينةِ على السَّابلةِ وَيَقتحمونَ بيوتَ الطِّينِ التي غادرَها أهلُها. حيثُ الكهوف النائية كنتُ أجري رغمَ كهولتي خِشيةَ بطْشِهم. تذكرتُ أنّني لم أصْطَحِبْ أولادي ولا زوجتي. حين قرّرتُ العودةَ رأيتُ شَيخا مُسنًّا يَضحكُ بِدَهْشةٍ من سَذاجتي ، إذ لم يكنْ ثمَّةَ بابٌ ولا نوافذ سوى طوابير مِنَ العُراةِ تحومُ فوقَ رؤوسهِم الغَرانيقُ المُلوّنة، حيثُ الكَتَبة بجلابيبِهم البيضاءَ وثمَّةَ سماواتٌ لازورديَّةٌّ وموسيقى ساحرةٌ ربَّما قُدّاس الموتى *وجَلبةٌ شَبيهةٌ بأصواتِ الرّعاعِ يخالِطُها دويُّ المدافعِ وأنا الذي أضعت الطّريقَ بينَ الحُمّى والفَزَع.

البناء الجملي المتواصل .

في قصيدة ( زهور برية ) المتكونة من خمسة أسطر ، يبهرنا عادل قاسم بقصيدة كاملة ليس فيها الا نقطة واحدة ، يستمر نفس القراءة من اولها الى آخرها دون توقف ، بسرد و وصف متسلسل و متواصل ، ببناء جملي متواصل شديد التجلي و الوضوح . و هكذا تقريبا في قصيدة ( الطائر الأخضر ) المتكونة من ثمانية أسطر ، فانك لا تجد الا نقطتين ، قصيدة تتكون من وحدتين كلاميتين ، ببناء جملي متواصل شديد التجلي . و أيضا في قصيدة الفزع فانه رغم تكوّن القصيدة من عدة جمل الا انها بفقرة واحدة و بيان واحدو لحظة سردية واحدة دون انقطاع بنفس مستمر لا ينتهي الا عند نهاية النص .

انّ هذه الصفة النثرية ، اضافة الى تحقيقها البناء الجملي المتواصل و التكامل النثري ، حيث ان التواصل الكلامي هو من أهم مميزات النثر كشكل كتابي ، فانها تعكس تجربة عميقة في الكلام الفني و الكتابة السردية .

وضوح الأفكار

ما نقصده بالضبط و وضح الفكرة ليس وضوح الرسالة و الخطاب ، و انما نقصد ان البناء النصي واضح البيان و مفهوم و متشكل و متجل ، بمعنى ان الافكار التي تحملها العبارات واضحة بحيث تتشكل في ذهن القارئ صور واضحة و ان كانت رمزية و ايحائية و استعارية ؛ الا انها واضحة و مفهومة غير منغلقة و لا متعالية و لا متشظية . و هذه الامور و كما واضح مما تعاني منه القصيدة المشطرة الصورية ( اللاسردية ) مما يجعلها تتسم بالجفاف و الجفاء ، بينما القصيدة السردية بسلاستها و وضوحها تحقق العذوبة و تنفذ الى النفس . و لا نحتاج الى كثير كلام في بيان الوضوح و الجلاء في الصور و تماسكها و ترابطها في القصائد الثلاث المتقدمة ، حتى انّ تلك القصائد لجلاء صورها و خيالها تنقل القارئ الى عالمها ، و لقد أشرنا مرارا ان نقل القارئ للعيش في النص هو من أهم انجازات القصيدة السردية و هي من عوامل عذوبتها و نفوذها في النفس .

الرمزية القريبة

بالبناء الجملي المتواصل و وضوح الافكار و سلاسة البيان ، تتحقق ألفة و قرب بين النص و المتلقي ، و هنا يستطيع الشاعر ان يحمّل عباراته طاقات رمزية هائلة دون ان تضر بعذوبة و ألفة النص ، انّ هذه الحرية في التعبير و تلك السعة في القصيدة السردية لا يمكن ان تتوفر في غيرها من اشكال الشعر ، فان اي محاولة رمزية في غيرها يحقق اغترابا و تجافيا و تعاليا نصيا ، و يسبب في جفاف و جفاء النص ، بينما في القصيدة السردية مهما حملت من طاقات رمزية فانها تبقى قريبة . انّ من الواضح جدا ان القصيدة السردية ( المابعد حداثية ) تبقى على قربها و عذوبتها و ان حُمّلت بطاقات رمزية كبيرة ، بينما القصيدة الحداثية تفقد ألفتها و قربها بتحميل رمزي أصغر بكثير من ذلك ، و هذه الطاقة و السعة هي ما يمكن ان نسميه ( حرية التعبير ) التي توفرها القصيدة السردية للشاعر . بل يمكننا القول انّ الاتجاه نحو الرمزية احيانا مع السرد التعبيري يكسب القصيدة لمعانا و توهجا و سحرا لا يتوفر في القصيدة الحداثية . ان هذه الصفة التي يصبح فيها الاحياء و الرمز من عوامل الألفة و القرب بدل الجفاء و الاغتراب هو من غرائب و عجائب القصيدة السردية و التي يدركها الجميع كظاهرة لكن لا يعرف حقيقتها الا من يمارسها بعمق . و خير مثال هذه القصائد الثلاث فانها واضحة الرمزية بل و عالية في رمزيتها و ايحائيتها الا انها قريبة و مألوفة و عذبة .

الطاقات الشعورية للغة

من مميزات كتابات عادل قاسم انه يتعامل مع الكلمات كالالوان ، لذلك فهو يستخدمها ببعد التأثيري الجمالي قبل بعدها المعنوي التوصيلي ، و لذلك ايضا تجد عباراته و مفرداته محملة بطاقات شعورية و مشاعرية استثنائية . نجد هذا الزخم الشعوري الذي يصل المتلقي قبل المعاني في مقاطع النصوص و منها ممثلا :

((حين تغفو الريحُ فوق وجهِ البركة الضاحكةِ ، وتنطلقُ بِرشاقةٍ ورهافةٍ موسيقى الاشجارِ الناحلةَ ، يَستفيقُ المساءُ أخيراً، وتلتمعُ في الافقِ البعيد خلفَ التلالِ النائمة، بقايا الجدائلِ المُشرقةُ للشمسِ )) .

نحن هنا لا نتحدث عن شعرية الصورة و الخيال الجميل و الابهار التصويري ، و انما نتحدث بالضبط عن الزخم الشعوري الذي حملت به المفردات ، و الذي يعني بالضبط ان الشعور الموصل بتلك العبارات و المفردات يكون اكثر جلاء من الوصف و الحكي و يكون غير مستطاع الا بما قد كتب . وهذا الاسلوب وهو من التجريدية في الكتابة هو المسؤول الاساس عن الموسيقى الفكرية في النص النثري ، و مع خفوت التجريدية في النص فانه يكون ضعيفا في موسيقاه الداخلية . فنجد هنا ( غفوة و ضحكة و رشاقة و نحول و استفاقة و لمعان و اشراقة ، ) و اضافة الى حركة النص و مفرداته فانها ايضا تتناغم و تخلق مزاجا تعبيريا لدى القارئ و تنقله الى عالم شعوري بسبب التناغم و التجانس و الموسيقى المصنوعة بالافكار و المعاني و ليس بالاصوات و العوامل البصرية . هنا بالضبط تكمن فنية الشعر النثري ، انها تتلخص في كيفية اطرابك و أسرك القارئ بالمعاني و الافكار من دون موسيقى شكلية و لا تفنن بصري كتابي . فينما تأشر القصيدة الموزونة او النثرية الحرّة القارئ من خلال الموسيقى الشكلية سمعية كانت او بصرية فان قصيدة النثر النموذجية السردية فانها تأسر القارئ بموسيقى الافكار و المعاني .

الشعور العميق باللغة

نقصد بالشعور العميق باللغة هو ما نشير اليه دوما بالاحساس الشعوري بالمعاني وهو القاعدة و المقدمة للكتابة التجريدية ، بحيث تكون الكلمات ليست دوالا و لا وسائط معنوية توصيلية فقط بل تكون كيانات شعورية لها تاريخ جنالي و زخم شعوري يدركه الشاعر و يوظفه . ان هذا الفهم و هذا الادراك سواء من الكاتب او القارئ او الناقد يعني بالضبط هزّة بل و اسقاطا لفكرة ارتكاز الوظيفة الادبية و جمالياتها على الدال و المدلول ، بل التجربة الحقيقية ليس في توصيل الرسالة عن طريق المعاني بل توصيلها عن طريق الشعور ، و عادل قاسم من امهر من يدركون الثقل المشاعري و الجمالي للمفردات ، و القدرة التأثيرية لها . فخذ مثلا عبارته :

(( ذاتَ ليلةٍ شتائيّةٍ كنتُ أهذي من فَرْطِ الحُمَّى ، وأنا أرى جَمهرَة من الرّعاعِ مُدَجَّجين َبسيوفهِم ولِحاهُم الكثَّةِ يَقْطَعونَ أزقَّةَ المدينةِ على السَّابلةِ وَيَقتحمونَ بيوتَ الطِّينِ التي غادرَها أهلُها. حيثُ الكهوف النائية كنتُ أجري رغمَ كهولتي خِشيةَ بطْشِهم.))

ان الشاعر هنا يتحدث بشكل صادق و أمين عن مأساة ، لكنها لم يرتض الا ان يحملها أقصى ما يمكن من زخم شعوري ، بتطعيم كلمات و مفردات مؤثرة فعلا في خلق الزخم الشعوري ، فلدينا ( ليلة شتائية ) و لدينا ( مدججين بالسيوف ) و لدينا ( بيوت الطين ) و لدينا ( كهوف النائية ) و لدينا ( كهولتي ) هذه العناصر التخيلية و الخيالية ، لو رفعناها للنص لما اختلفت رسالة النص و لا جوهره الخطابي التوصلي ، الا ان الزخم الشعور و الطاقات التعبيري ستهبط و سيتغير النص كليا و يصبح نصا آخر ، هذا التطعيم و هذا البعد الشعوري ثنائي في تحققه من جهة التجربة العميقة للشاعر و ادراكه العميق بالكلمات و اللغة و الوعي الانساني بها ، و من جهة آخرى ما توفره السردية من حرية و مساحة لتوجيه المعاني و الطاقات الشعورية .



   نشر في 25 غشت 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا