حول الأصل والنشأة العروبية (1) عوربة الحبشة والسودان ومصر: - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حول الأصل والنشأة العروبية (1) عوربة الحبشة والسودان ومصر:

  نشر في 19 يونيو 2016 .

لطالما أكدت في مقامات مختلفة على ضرورة تطوير أدواتنا البحثية بالاعتماد على المناهج والتطبيقات الأنثروبولوجية واللسانية، باعتبارنا نتعامل مع نصوص ومواد ترتبط ببيئات اجتماعية وثقافية اتسمت بغاية من التعدد والتباين.

وفي السياق التالي سأقدم استخلاصاً بحثياً، يدعم ما كنت قد قدمته بين يدي مقالتي السابقة (حول أصل تسمية العرب وتاريخ ظهورهم)، لاسيما وأن البعض استهجنوا ما جاء فيها، بل وأنكروه تماماً.

إن فكرتي ومفهومي عن "المشترك اللغوي العروبي" لا تعني أبداً أن اللغة العربية هي أم لغات المنطقة أو أصلها، بل تعني أن ثمة لغة ربما كانت مشتركة في مرحلة النشأة الأناسية والتكوين العروبي، وأن اللغة العربية الراهنة ليست إلا احدى اللغات المتكونة عن هذا الأصل، شأنها في ذلك شأن بقية اللغات السومرية والأكادية والآشورية والفينيقية والآرامية والمصرية.. الخ. فالعروبية تعني الحالة الطبيعية الأولى للإنسان القديم في منطقتنا، والتي تميزه عن الانسان البدائي والهمجي، والتي حملت معها طفرة تطورية أكسبته القدرة على صنع البدايات الأولى للحضارات الانسانية جمعاء، والتأكيد على الأصل اللغوي نابع من أهمية ودور اللغة التواصلي في صنع المجتمعات والكيانات الاجتماعية الانسانية، وصنع الروابط بينها، ذلك أن دراسة تاريخ اللغة وتطورها، إنما يجسد حالتي السيرورة والصيرورة التي اتخذتها الكتلة العروبية لنفسها، من خلال تكويناتها المتفرعة والمستقلة بذاتها والتي صنعت مسارات متعددة للبناء والتكوين الحضاري، الذي كان ولازال بمثابة جذر كل حضارات البشرية على هذا الكوكب.

لننطلق هنا، مما أكده عدد من مشاهير علماء الآثار، وهو أن الهجرات من جنوب جزيرة العرب لم تقتصر على سورية وفلسطين ولبنان، والعراق، بل تعدتها إلى مصر أيضاً حيث وجدت الكثير من المؤشرات التي تدل على أن موجات عتيقة قد نزحت من جنوب الجزيرة العربية إلى وادي النيل واستقرت فيه منذ عصور الباليوليث والنيوليت وحتى عصر الحضارة الأم، وفي فجر التاريخ - حدود الألف الرابع قبل الميلاد- وأن هذه الموجات سلكت طريقين أحدهما من بزرخ السويس والآخر عبر مضيق باب المندب.

وذهب (Duberete) الى الهيكل المنضدي المصدوع الذي يمثل سواحل اليمن والحجاز- يظهر بشكل متشابه في سواحل أفريقيا فيما وراء البحر الأحمر، مما حدا بالجغرافيين إلى اعتبار شبه الجزيرة العربية جزءاً من القارة الافريقية يفصله عنها شبه انحراف.

في حين أكدت العديد من الدراسات التي قام بها باحثين غربيين (Seligman) (Ullendorff,E) (Shohid) (Irvine ,A. K) (Hurni G) على أن منطقة القرن الأفريقي والحبشة أو أثيوبيا كانت أولى المناطق التي وصلت إليها الموجات العروبية قادمة من اليمن منذ ما قبل التاريخ، بل وصارت معبراً لوصول موجات أخرى الى السودان ومصر.

وقد أكد ((Irvine ,A. K)) على أن التسمية الأولى التي أطلقت على ما يعرف اليوم باسم "اثيوبيا"، هو "الحبشة" ومن هذا الاسم أطلق الأوربيون عليها اسم (Abyssinia)، والأصل أن هذه التسمية جاءت نسبة إلى شعب "حبشت" الذي قدم من اليمن (من المهرة بحضرموت ومن تهامة اليمنية)، فأغلب سكان الحبشة لازال تغلب عليهم ملامح وسحنات العنصر اليمني، حتى أن بعض الباحثين ذهبوا الى القول بأن تاريخ الحبشة قد بدأ فعلاً في جنوب الجزيرة العربية، وأن اليمنيين القدامى جعلوا من الحبشة- عبر تاريخها الطويل- جسراً بين قارتي آسيا وافريقيا.

وتظهر آثار عوربة الحبشة في التسميات التي أطلقت على الأماكن والأنهار والتضاريس منذ فجر التاريخ وحتى الآن، فأسماء تلك الأماكن في الجانب الافريقي كانت ولازالت من أصل يمني مثل: سبأ، سَحرت، هَوزن، سراة، مأرب... وهي بالتأكيد أسماء نقلها المهاجرون من وطنهم الأصلي إلى حيث استقروا.

"وفي عام (1681) توصل الباحث الألماني "هيبوب لودولف" الى أن نشأة حضارة الحبشة كانت على يد مهاجرين قدموا من اليمن، مؤكداً على التشابه بين لغة البلدين ووجود عناصر مشتركة في دياناتهما وعاداتهما القديمة، والتشابه في الملامح والهيئة.

وهذا أيضاً ما أكده النمساوي (د. هـ. ملر) سنة (1893)، عندما قام بنشر كتابات مسندية يمنية عُثر عليها في بلدة يحا (Yaha) على بعد خمسين كيلو متراً شرقي أكسوم على الطريق المؤدية إلى ميناء أووليس "عدولي" القديم.

وعندما درس جلازر هذه القضية سنة (1895) رأى أن التسمية " حبشة- حبشت" منذ زمن عريق في القدم كانت تسمية عامة لكافة مزارعي وجامعي اللبّان، لافي جنوب الجزيرة العربية فحسب بل أيضاً في الصومال والحبشة واعتبرهم استمراراً ثقافياً واحداً، وبرر رأيه بورود الكلمة" ألف مضة" حبستي في النصوص الهيروغليفية القديمة وبالرجوع إلى المعنى الأصلي للفعل العروبي "حبش" وهو جمع.

وهنا لا نحتاج للتذكير بحقيقة أن جنوب الجزيرة العربية كان المصدر والمنتج الوحيد للبخور واللبان في كل نواحي العالم المعروف منذ ما قبل التاريخ وحتى المراحل التالية من الحضارات الجليلة.

وفي عام (1962) نشر الباحث الفرنسي دروز (Drewes) دراسة تحليلية للنصوص الحبشية في كتاب صدر في ليدن بعنوان"نقوش من الحبشة القديمة".

وأكد المستشرق الايطالي "كونتي روسيني"، على أن الموجات اليمنية المتتالية استمرت في التدفق إلى الساحل الافريقي من البحر الأحمر منذ ما قبل التاريخ وحتى بداية الألف الأول قبل الميلاد، ناقلة معها لغتهم، وفن البناء بالحجر، والقراءة والكتابة وكانوا أول من أدخل الزراعة، ومن هناك توغلوا إلى عمق القارة الافريقية وجهاتها المتعددة، وأن هذه الموجات كانت تحمل مقومات الحضارة الزراعية والاستقرار المديني في أشكاله الأولى، بما في ذلك من تنظيمات مجتمعية وأساليب انتاج وعمل وبناء وهندسة وعمارة وغير ذلك.

وقد أكدت اكتشافات البعثة الألمانية سنة (1905) في حفرياتها قرب أكسوم مجموعة كبيرة من الآثار هي عبارة عن عدد من الأعمدة والمسلاّت ذات الطابع السبئي. وفي الفترة بين عامي (1953-1954) اكتشفت في (أزبي ديرا) -أقصى شرق هضبة تتجري على تمثال حجري لملك يرتدي رداءً ثميناً مزيناً، وهو جالس على كرسي، وعند قدم التمثال كتابة بالسبئية. كما اكتشف في مدينة (أفا/ تحا) (Ava) معبد للإله شمس السبئي، كما دلت المعالم المعمارية والصناعات الفنية على سيادة الثقافة السبئية في الحبشة. كما اكتشف معبد للإله القمر "سين" السبئي، وهو الإله الذي سنجده عند كل الحضارات في المنطقة العروبية.

شكل الاستقرار العروبي للموجات اليمنية في القرن الافريقي والحبشة، منطلقاً لاتساع نطاق انتشارهم الذي وصل الى السودان (الجزء الجنوبي من وادي النيل)، في الوقت نفسه الذي كانت تتدفق فيه موجات أخرى من جنوب الجزيرة العربية وعبر كامل أراضيها باتجاه الشرق والشمال نحو الساحل المتوسطي. وتشير الكثير من المفردات في السودان القديم الى أن جذورها اللغوية تعود بالفعل تعود الى الأصل اللغوي الذي كان سائداً في جنوب الجزيرة العربية- بل أن هناك معطيات انثروبولوجية واركيولوجية واثنولوجية، توحي بأن الموجات العروبية القادمة من اليمن قد وصلت الى الجزء الجنوبي من وادي النيل (السودان)، في مراحل مبكرة من فجر التاريخ، وأنها بحد ذاتها كانت استمراراً لموجات سابقة جرى انتقالها من جنوب غرب الجزيرة العربية الى الهضبة السودانية في عصور ما قبل التاريخ. بل أن وادي النيل هنا، يمثل في شطريه (السوداني والمصري)، مستوى اقتصادياً ولغوياً وثقافياً متكاملاً بصورة أساسية، وذلك ضمن عملية التكوين والمزج العروبي.

بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أكدت العديد من الدراسات الحديثة لدى بعض المفكرين الافريقيين في غرب أفريقيا، على أن الموجات اليمنية قد وصلت واستقرت في بلاد اليوربا، غربي نيجيريا، وفي السودان الغربي، وأوغلت جنوباً عن طريق بحر العرب والمحيط الهندي إلى زنجبار وشواطئ كينيا وتانجانيقا ومن هناك توغلت على خطوط العرض حتى عرفت جبال القمر وهضبة البحيرات وأكثر من هذا وصلت إلى تقسيم المياه بين نهري النيل والكونغو.

ومهما يكن فإن هناك اليوم من المؤشرات الأركيولوجية والأنثروبولوجية ما يؤكد على أنه وبالقدر الذي صار وثيقاً بأن النشأة الأولى للكتلة العروبية كانت في جنوب جزيرة العرب، فإن التكوين العروبي لهذه الكتلة في مظاهرها التالية، قد حدث في المنطقة الواقعة ما بين الجزيرة العربية وبلاد الرافدين وسوريا الكبرى وشرق أفريقيا أو وادي النيل وفي الشمال الافريقي أيضاً. وهي العملية التي سمحت بظهور شعوب وحضارات المنطقة بمسمياتها وتشكيلاتها المتباينة والمتعددة في فجر التاريخ.

يتبع في مقال:

عوربة بلاد الرافدين وسوريا الكبرى
عوربة شمال أفريقيا (الموجة العروبية الفينيقية).

**

المراجع:

Duberete, Et Weulersee, Manuale De Georaphie: Fa Penisule Arobique, Beyrouth 1940.

Seligman, C.G Races Of Africa Oxford 1957.

Ullendorff,E, The Ethiopians, Oxford 1961.

Shohid, I,Pre-Islomic Arabice “In The Combridge History Of Islam Vol. IA (1977).

Irvine ,A. K. “ On The Identity Of Habashat In The South Aralion Inscriptions “,In Journal Of Semitic Studies , Manchester 1965, Vol 10.

Trimingham , J.S , Islam In Ethiopia London 1976.

Hurni G. Arab Seaforing Beirut 1963.

Jones A .H. M And Monroe E.A History Of Ethiopic Oxford 1978.

Perhom ,M. The Government Of Ethiopic london 1948.


  • 1

   نشر في 19 يونيو 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا