لا يكاد يقترب دخول شهر رمضان حتى تنهال علينا الروابط والملفات التي تسرد كما مطولا من (أحكام الصيام) وتدعو المسلم لمراجعتها لضمان تطبيقها ومن ثم صلاح صومه وقبوله، ويدخل المسلم الباحث عن أحكام عبادته في بحر من الأحكام التفصيلية ودوامة من الخلافات الفقهية المتعلقة بها ليجد نفسه تائها بين أقوال العلماء حائرا في التفريق بين ما يفسد صومه وبين ما يصلحه، وبين ما يجب ومالا يجب وهكذا هو حال المسلم مع جميع عباداته منذ انتشرت المدارس الفقهية وفرضت فلسفتها في العبادات على الأمة ومنذ أن فرضت الإجتهادات الفقهية بتفصيلاتها المحدثة كواسطة بين الفرد المسلم وبين النص التشريعي، وما زال المسلم لا يجد جوابا شافيا على سؤاله الحائر عن كيفية الترجيح بين الآراء الفقهية المختلفة الا عند من يدله على أن يسلم لشيخ أو مدرسة لا يخرج عنها قيد أنملة حرصا على سلامة دينه!
إن الذي يدرس (الفقه) الذي أنتجته المدارس الفقهية يجد في معظم المسائل أقوالا متباينة لا يدري أيها يتبع، ففي درس من دروس الفقه سرد علينا شيخنا عشرة آراء في مسألة واحدة من مسائل الفقه ووجدت نفسي حائرا ومتسائلا إن كان الشارع الحكيم قد شرع لنا واحدا من هذه العشرة أحكام ما بالنا لم نجده في نص صريح يكفينا عناء الاختلاف والبحث والترجيح؟
أدركت بمرور الأيام أن هناك فجوة ما بين مفهوم العبادة في النص التشريعي، وبين مفهومها في كتب الفقه، وقد بدأت الفجوة بالتشكل في زمن مبكر من التاريخ الاسلامي، حين تحول الفقه في الدين الى علم متوسع متشعب، إن مفهوم الفقه ينحصر في وعي النص وفهم مراد الشارع منه وتنزيل النص على الواقع ووظيفة الفقيه هي ربط الناس بالنص وتسهيل فهمه لمن لا يمتلك آلة الفهم، أما علوم الشريعة التي تشكلت عبر التاريخ الإسلامي فقد ابتدأت بالأحكام الواردة في النصوص وانتهت بتكوين إرث ثقيل من العلوم المتشعبة والقواعد المحدثة والأحكام التفصيلية التي لم ترد في النصوص وكونتها اجتهادات العلماء الأفاضل، وغدت هذه العلوم مرجعا بديلا عن النص تستقى منه أحكام الدين، ونظرا لضخامة هذه العلوم فلم يعد بمقدور كل مسلم الإحاطة بها، فتكون لدينا مفهوم أهل الإختصاص (العلماء) ممن تعمق في دراسة هذه العلوم، وأصبح هؤلاء هم المخولون بالرجوع الى النص واستخلاص الأحكام منه، فحال هذا المفهوم بين المسلم وبين النص الديني، فصار المسلم يتردد في الاستجابة التلقائية الى أوامر الله قبل أن ينظر في أقوال (أهل الإختصاص) ويسمع منهم تفصيلهم للأمر وهل هو باق أو منسوخ! أو أن هناك تفصيل وجب عليه فهمه قبل أن يطبق الأمر، وهنا أغرقه أهل الإختصاص في أحكام استحدثوها الى جانب ما جاء به النص من أحكام، ثم أغرقوه في خلافاتهم في تلك الأحكام، وحرموه من شرف تلقي الأوامر من النص، ومن كمال عبوديته في امتثاله المباشر لأوامر الله.
ولنأخذ مثالا على الصيام حيث أنزل الله أحكامه في نصوص مجملة ميسرة يفهمها كل متقن للعربية، ولو جمعت تلك الأحكام لما ملأت صفحة أو صفحتين، ولما تجاوزت أمر الله لعبده بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع خلال أوقات معينة، مع بعض الأحكام التي يسر الله الإحاطة بها، أما لو قرأت عن الصيام في كتب الفقه فستدخل في مباحث مفصلة قد يعتريها التنطع، فمسائل النية وهل تكفي نية واحدة للشهر أم لا تكفي، ووقت عقد النية وحكم بلع اللقمة بعد سماع الأذان وكأن الفجر يطلع في لحظة! وأحكام البخاخات والإبر والقطرات العلاجية وبلع الريق والقضاء وغيرها من التفصيلات المحدثة التي كان الاختلاف فيها أكثر من الإتفاق، ولو اكتفى علماؤنا غفر الله لهم بالتفقه في نصوص الشرع ومساعدة المسلم العامي في فهم النص واتباعه وعدم الخروج عنه لكان ذلك أقرب الى مراد الله وأيسر للأمة، وليتنا وعينا الدرس الذي أنزله الله لنا في قصة البقرة حين شدد بنو اسرائيل على أنفسهم وبحثوا في تفاصيل ما أمرهم الله بها فعسروا على أنفسهم، وكانوا أبعد عن ما أراده الله لهم.
فجوة أخرى ساهمت في تكون الفجوة الأولى تتعلق بالفرق بين مفهوم العبادة في النص التشريعي وبين شكلها الذي تعرضه كتب الفقه، إن العبادة كما يأمر بها النص الديني هي عمل يتشكل من طبيعة ثنائية يجتمع فيها عمل القلب مع عمل الجوارح بطابعه الحركي الفيزيائي، والجانب القلبي هو لب العبادة وحقيقتها، ويتمثل الجانب القلبي من العبادة في صدق التوجه لله والإمتثال لأمره وإخلاص العبادة له وتقديم أمره على هوى النفس وهو مقدم في الأهمية على الجانب الفيزيائي من العبادة وفقده يفسد العبادة بينما غياب عمل الجوارح مع حضور عمل القلب قد لا يمنع تحقق الأجر، ولنتفكر في قوله تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} وقوله {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وقوله في آية لاحقة { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} ومن ثم قوله { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} لنرى جليا تأكيد القرآن على أن حقيقة العبادة الأهم تتمثل في تقوى الله والإمتثال لأمره وهو عمل قلبي وأما الجانب (الفيزيائي) كالنحر أو التوجه الى القبلة، فهو تبع للجانب الأول ووجوده ضروري لتجسيد العبادة في حياة المسلم ولكنه ليس جوهر العبادة.
إن من ترك الصلاة بحجة أنه يصلي بقلبه أو أنه قد نال مقصودها من امتناع عن الفحشاء والمنكر، لا يقل خطأه برأيي عن من يؤدي الصلاة بجسده ويؤدي شروطها وواجباتها التي نصت عليها كتب الفقه على أكمل وجه لكن قلبه غافل عن أن يقف في محراب العبودية، ومن يجعل الدنيا أكبر في قلبه من مرضاة الله قد لا ينفعه أن يلهج لسانه بتكبير الله وتعظيمه، ومن كانت عبادته مدعاة له للتكبر على الناس فقد لا ينفعه أداؤها، لقد كرس فقهاؤنا غفر الله لهم فقههم للتأكيد على الجانب الجسدي الفيزيائي من العبادة والإسهاب في تفاصيله وأولو جل اهتمامهم بهذا الجانب وكأنه لب العبادة، مع أن آيات القرآن تؤكد في معرض كل حكم من الأحكام على ما يجب أن يكون عليه قلب العابد من تقوى وتضرع ورغبة ورهبة وخضوع، هذا الفقه أنتج لنا مظاهر من العبادة لا يقبلها مؤمن، فالمصلي الذي يقرأ الفاتحة في ثلاثة ثوان، والصائم الذي يبرر سوء خُلقه مع خلق الله بأنه صائم، ومن يحضر الجمعة ويقطع طريق الناس بسيارته بحجة أنه مضطر للحاق بالصلاة، ومن يؤذي الطائفين ليقبل الحجر الأسود كل هؤلاء مطمئنون الى صحة عبادتهم كونها تتفق مع ما في كتب الفقهاء من شروط وأركان وواجبات، وهؤلاء قد يعرضون أنفسهم إلى أن لا يقبل الله منهم عبادة يؤذي بها صاحبها خلق الله ويمن بها عليهم ولو صححها له أهل العلم!
لو ركز فقهاؤنا على واجبات القلب حين أداء العبادة لكان فقهنا أقل إلحاحا وإسهابا في بحثه عن واجبات الجوارح، ولكفانا ما جاءنا في النص وليسرنا على الناس أمر دينهم وأشغلناهم في استحضار قلوبهم بدلا من شغل أنفسهم بمواضع جوارحهم في الصلاة وترتيب مناسكهم في الحج ومراقبة ما يتطاير الى أفواههم وأبدانهم حال الصيام، كانت تحاورني ملحدة تدعي أن ديننا فيه نقص لأنه لا يوجد لدينا نص يرشد من أتاه رمضان وهو في القطب الشمالي أو الجنوبي حيث يمتد الليل ستة أشهر والنهار ستة أشهر الى وقت الإمساك والإفطار بالنسبة له، قلت لها: لو أن الله أنزل لنا نصوصا تدلنا على كيفية أداء كل عبادة في أي ظرف من ظروف الحياة التي لا تنتهي تغيرا وتعقيدا لأصبح تعلم الدين مشقة لا تطاق، لأن مئات الكتب لن تكفي لسرد أحكام عبادة واحدة، ولكن مشكلتك في فهم العبادة هي مشكلة الكثيرين منا كمسلمين، نركز على جانبها الفيزيائي وكأنه لب العبادة وجوهرها، ولو اجتهد العابد في كل نازلة على حدة لوجد متسعا من الهيئات التي تصلح بها عبادته، طالما اتصف بالتقوى وتجنب الهوى والتزم قلبه منزلة العبودية والإتباع فاجتهاده لن يوصله إلا الى ما يرضي ربه عن عبادته -بكرم الله ورحمته- ورحمة الله وسعت كل شيء.
قال أبو يزيد البسطامي: مررت بدير فيه راهبة، فسألتها أهنا مكان طاهر أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك، و صلِ حيث شئت!
والله تعالى أعلم ورحمته أوسع....
-
أحمد عبودكاتب