للتواصل عنوان وللسفر صحبة
تعلمت كيف أصنع من الأحداث مادة للفائدة وموضوع يستحق الكتابة
نشر في 14 أكتوبر 2015 .
للتواصل عنوان ... وراء كل شخص تصحبه قصة يرويها عن نفسه بمثابة بريد سلام للتعارف، فمنها ما هو مثير للشفقة وما تزداد به خبرة، وغيرها لا تود سماعه.
وللسفر صحبة ... فمعدن الصديق يُصْقَل في المواقف ويُخْتبَر في المال، فتجد صحبة كالذهب، وآخرين كالحديد إذا صدأ فهذا الصنف فرَّ منه فرارك من الأسد، وبالمناسبة يقول د.غازي القصيبي: "الصديق الحقيقي هو الإنسان الذي إختبرته المرة بعد المرة فوجدته صامدا في وفائه، ثابتا في ولائه".
أسرد لكم هذه الرحلة الغير متوقعة مع زميلي في الشركة، اقتضت الظروف أن أسافر معه إلى مؤتمر في كوالالمبور يدور محوره حول معايير أمن المعلومات، وليتها عن الأمن والسلامة في السفر لكان أنسب، في حين المغامرة تبدأ عند إنتهائنا من مهمتنا الرسمية وإحتكاكنا بالناس، وبالأخص برفيق هذه الرحلة على الرغم من إختلافنا في الجنسية والثقافة والتربية والإدارة، ولكن الشركة التي ننتسب إليها واحدة كما هو الحاصل في الديانة، وكذلك لغة التفاهم شاءت أن تكون الإنجليزية، ولا فرق بيننا إلابالتقوى، فقد كان يجمعنا ترحالنا جوا وبرا وبحرا، أحيانا تنصت لحديثه فيستمر حتى تألفه ويألفك فيكسر حاجز الرهبة في مواضيع مختلفة: منها دينية، إجتماعية، سياسية، وشؤون وظيفية، وأخرى ذو شجون، فتزداد به معرفة ويزداد بك ثقة، وبشكل عام هذا حال كل من تصحبه إما أن تفارقه مُحبّا أو كارهًا له، فإذا ألفته كانت الصور الملتقطة عنوان الصلة بينكما.
لقد قضينا ثلاثة أيام راحة واستجمام في الجزيرة الماليزية لنكاوي، فكانت الأمور طبيعية حتى هذا الموقف الذي لا نحسد عليه لدى مغادرتنا منتجع الجزيرة متجهين إلى مطارها فإذا بجميع الرحلات تم إلغاءها لهذا اليوم، ومن المحتمل أن تكون لعدة أيام،بسبب الدخان الكثيف الذي حال بيننا وبين قدوم طائرتنا، فالجزيرة الجميلة ما عادت جميلة لإستمرار حرق أشجار الغابات التي تقوم بها اندونيسيا لمشروعها الزراعي، حيث وصل الدخان وآثاره إلى الدول المجاورة لدرجة لا ترى فيها الشمس، بل حتى هذه الجزيرة المسكينة بشعبها الطيب، وطبيعتها الحسناء لم تسلم منها، ألا توجد هناك طريقة بديلة كقطع أشجار الغابات فضلا عن حرقها !!
لكي لا أطيل على القارئ ... الجزيرة منعزلة لا يربطها جسر ولا تلفريك، فإذًا أين السبيل !! ، عندها استغلينا عبّارة لنقل الركاب إلى محطة على الضفة الأخرى تبعد ساعة ونصف، بينما صاحبي في وسط البحر مستمتعا ومتفائلا لمجريات الأحداث، وبعد وصولنا كان القرار هو استغلال القطار، وللأسف تفاجأنا بأن أقرب موعد للمغادرة عند الساعة ١١ مساء، ومقابل هذا صاحبي حلمه طويل ونفسه عميق فمع كل موقف تجده مبتسما لبلوغ الهدف من أجل اللحاق برحلة العودة للكويت الساعة السادسة صباحا في اليوم الذي يليه مع أن كوالالمبور تبعد عنا ست ساعات في السيارة، وبعد طول انتظار يَسَّرَ الله لنا سائق تاكسي بسن الستين من عمره حيث اشترط علينا أن تكون الرحلة مع زوجته ورفيقة دربه ليصحبها معنا ذهابا ولتصبح عونا له إيابا، وذلك بعد الإنتهاء من عملها المدرسي المتواضع، فهي تعين زوجها ماليا على متطلبات الحياة، أما هو يكافح لكسب رزقه.
من دافع الفضول سألته هل لديك أبناء، فكان الجواب عاطفي من أب عظيم: "نعم، وهم ثلاثة متفرقون في البلدة يُبْعدني عنهم طول المسافة والزمن، أفنيت شبابي لأجلهم بوظيفة شرطي مكافحة المخدرات، حتى تقاعدت ولم أتوقف عن إيجاد عمل آخر، وكل هذا سعيا وراء الرزق الحلال أستعين به على مرارة العيش، ولأوفر لهم المال اللازم لسد حاجاتهم حتى يكبروا ويعتمدوا على أنفسهم"، هذا كلامه ولكن هل نسوا أم تناسوا أن لهم أُمْ وأَبْ، أو هي الظروف !! .. فوجدت أنه لم يخلص أحد له في دنياه وكبره غير زوجته الوفية، فما شاهدناه من مودة ومعاملة حسنة دليل على ذلك، ونحن نترقبهما أنا وصاحبي طوال مكوثنا في المقعد الخلفي في السيارة، نرى عن كثب حسن الضيافة لزوجها ورحمته بزوجته، وخذ أيضا ممازحته لها، ناهيك عن الحديث معه كي لا تشعره بوحدة الطريق المظلم الذي لا يُرى فيه سوى أضواء السيارات والأمطار المنهمرة، وبينما هو في صراع مع الطريق الممل لا حظ زوجته الحبيبة قد توقفت عن مؤانسته، فتوقف هو عند أقرب إستراحة، لكي يحضر لها مسند الظهر من صندوق السيارة ويضعه خلفها لتستريح من عناء السفر، وجلب لها بعض ما تحب أكله وشربه، فهذا من أبسط ما يكون من بره لها وبرها له.
حقا للسفر صحبة ... شتان بين صحبة مؤقتة لياليها معدودة وأخرى مستمرة تنتهي بموت أحدهما، عشرة عمر مضى عليها ٣٣ سنة تقريبا حين سألناه، وها نحن قد صحبناهم لسويعات محدودة تعلمنا فيها دروس في الحياة الزوجية.
وأخيرا هلت علينا أنوار المدينة الصاخبة بماقهيها الليلية، فقد كانت الساعة تشير الى ١٢ مساء، ولازلنا قريبين من الفندق المنشود، وقد تبين لنا سبب غلاء خدمته في التوصيل بعد أن ندمنا على تفاوضنا معه لخفضها، حيث يصرف جزء من هذا المال على الوقود ذهابا وإيابا، وأيضا على غرفة زهيدة المستوى ليرتاح فيها قليلا بينما نحن لا نقبل بأقل من النجوم الخمس، وبعدها يصحو مبكرا ليرجع إلى منطقته حيث مكان عمل زوجته، فيعاود الكَرّة في انتظار راكب جديد ويوم شاق بصحبتها، فسبحان الذي قسم الأرزاق فمنهم من رزقه في السماء كالطيار،وفي البحر ككابتن السفينة وطاقمها، وعلى الأرض كسائقنا الذي سَخَّرنا الله له كمفتاح رزق.
بدأ الإرهاق واضحا على وجه صاحبي إلا أنه لم يشكو من شيء، ناهيك عن المشكلة الآخرى التي وقعنا فيها وهي أن السائق لا يعلم شوارع وفنادق كوالالمبور ولكن الحل جاهز لدينا، قمنا بإستخدام برامج الملاحة جوجل ماب والجارمن المخصص لشرق آسيا، عندها واجهنا صعوبة في التفاهم مع السائق وزوجته، فسبحان الذي جعل الإشارة أحيانا وسيلة للتخاطب والإرشاد، وبعد معاناة وضياع بين الطرق وصلنا أخيرا للفندق، وإذا بالمفاجأة الأخيرة أن السائق لا يعرف طريق الرجعة إلى منزله أو مكانا للراحة، قلنا له ما خاب من سأل ... ولا أخفي عليكم أني استطعت إلتقاط صورة جماعية لنا ولهم لتبقى منحوتة في الذاكرة .
وبعد صمت طويل، كان هذا التعليق من صاحبي في الليل الدامس على إيقاع الأمطار حيث قال: "لقد سافرت شرقا وغربا ولم أجد رحلة كهذه !! " ، تاركا للقارئ تفسيرها .. فقد ذكرني بقول الشاعر أبو تمام:
لقد جربت هذا الدهر حتى
أفادتني التجارب والعناء
وفي الختام، إن كان صاحبي قد قرأ ووعى مقالي هذا فليعلم أني تعلمت منه الكثير خصوصا حرفيته المهنية، فقد كان أحد المشاركين في حلقة نقاشية في المؤتمر وكان ذلك معنى الإلتزام والمشاركة والتحضير، ومن ناحية أخرى لا أنسى صبره، فقد تعلمت منه كيف أصنع من الأحداث مادة للفائدة وموضوع يستحق الكتابة فتتحول المواقف إلى ذكريات تصحبها الإبتسامة ودروس قَيِّمة ، وعلمني أيضا كيف أقف على حاجات الناس وأن أحسن الإستماع إليهم.
ولا يسعني إلا أن أؤكد أن للسفر صحبة وللتواصل عنوان.
-
FAISAL ALMULLAمهتم في الاقتصاد ومحب للتفكير الناقد والإدارة