بصل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

بصل

بصل

  نشر في 01 ديسمبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

كانَ الصغيرُ يرتجفُ خوفاً كعصفورٍ بلّلهُ المطر، أمسكَ الأبُ بيدِ الصغير وضغطَ بإصبعهِ بقوةٍ على الجرحِ الذي إحمرَ لونهُ و لا زالَ الدمُ ينزفُ منه و أسرعَ به الى العيادةِ الصحيةِ القريبةِ من البيت. لصقَ الطبيبُ الجرحَ الذي لمْ يعدْ الصغيرُ يحسُ بهِ و قد خُدر إصبعه المجروح و قال َ:لا تخفْ يا يوسفَ أنتَ بخير، و لكنه درسٌ تتعلمهُ أن لا تركضَ وبيدك كوبٌ من الزجاج و أنْ تشربَ و أنت جالس. إلتفتَ الطبيبُ إلى الأبِ و قالَ و هو يغمزُ عينيهِ: بعضُ الألمِ يعلمنا الصوابَ .. أليس كذلك يا يوسف؟ أومأ الصغير رأسه موافقاً . و تابع الطبيب موجهاً الحديثَ للأبِ: عليك أن تحافظَ على الجرح َجافاً لئلا يلتهبَ و يتعفنَ، ثمَ وجهَ الكلامَ للصغيرِ قائلاً: سيؤلمك الجرحُ قليلاً و لكنَ ذلك يعني أنكَ قويٌ و أنكَ ستصبحُ رجلاً و أن الجرحَ سيشفى بسرعة.

عادَ ياسرُللبيتِ و عادَ الصغيرُ مهرولاً يختبيءُ في حضنِ والدتهِ ، و في أقلِ من دقيقةٍ يغرقُ في نومٍ عميق. جلسَ على الأريكةِ و لا زالتْ كلماتُ الطبيبِ ترنُ كالجرسِ في رأسهِ .. _بعضُ الألمِ يعلمنا الصواب_، تلكَ كلماتُ والدتهِ له ،و قدْ تذكَر كلَ مرةٍ حزنتْ والدتهُ محاولةً إخفاءَ حزنها عنهُ و عن أخواتِه الصغارِ، كانتْ تهربُ للمطبخِ، و تبدأُ بتقطيعِ البصلِ، فلمْ يكنْ البيتُ سوى غرفتين لا تحتملان على سعتهما و شظفِ العيشِ مزيداً من الحزن و الأسى. كانَ ياسرُ الابنُ الأكبرِ لأبٍ ذهب لمعركةٍ لم تنتهِ و لا يبدو لها نهاية ،و تركَ خلفهُ صبيةًَ حسناءَ و صغارها .كانت الأم تحتضنُ أختهَ أمينةَ و رقيةَ كلما سألتاها أينَ أبيهم ،و تبدأُ بسردِ القصصِ المفرحةِ وإن غالبَ الدمعُ عينها. ذاتَ مرةٍ عادَ من المدرسةِ، و وجدَ أمهُ في المطبخِ تقطعُ بصلاً و لكن هذهِ المرةُ كانَ البصلُ كثيراً و كانت تبكي بحرقةٍ و سألها: لمَ تقطعينَ كلَ هذا البصلِ يا أمي؟ ألا يؤلمك كلُ هذا الدمعِ و يحزنك؟ قالتْ له: بعضُ الألمِ يعلمنا الصوابَ ،و لكنه أمسكَ بيدها و قالَ لها بكلِ براءةٍ أمي كمْ أكرهُ البصلَ .. لا أحبُ رؤيتك تبكين . احتضنها بكلتىّ يديهِ و غمرتهُ رائحةُ البصلِ و بكيا معاٍ و همستْ و هي ترتجفُ : و ما ذنبُ البصل. و بعد أيامٍ قليلةٍ علمَ من عمه ِ أن والدَه فُقدَ و ربما لنْ يعودَ أبداً و سألهُ أن يكونَ رجلاً و أنْ يفهمَ معنى المسؤلية… كلامٌ لم يفهمهُ لسنواتٍ طوال ،و قدْ حرصتْ والدتهُ أن يعيشَ طفولتهُ كغيرهِ من الصغار. لم تكفْ عن تقطيعِ البصل .. و لا عن البكاِء ،و لكنه فهمَ كمْ كانت تعاني و كمْ أحبتْ أن يكونَ أطفالها سعداء. كبرَ و هو يكرهُ البصلَ و يحبُ أمهُ أكثرَ من كلِ ما في الكونِ من أشياءٍ و أشخاص .كان إبناً باراً و صورةً جميلةً لأبٍ ذهبَ و لم يعدْ ،و لكنه في قلبِ و ذاكرةِ الزوجةِ أبداً لم يغبْ. رحلتْ و لكنها علمتهُ أنَ الحياة َلا تقفُ عندَ حضورِ الأشخاصِ أو غيابهم بلْ على قدرِ محبتهِم و وفائنا لهم ، و أنَ الحزنَ لا يقتلُ فينا الفرحَ بلْ ربما يعلمنا الصبرَ و يهدينا سبلَ الصواب.

أحس بغصةٍ في حلقهِ فقامَ من مجلسهِ و دخلَ المطبخَ ليشربَ كوباً من الماء ، و إذ بزوجتهِ تقطعُ بصلاً و الدمعُ يغطي وجهها، كانَ يعلمُ قدرَ خوفها على صغيرها . فتحتْ فمها وأرادتْ أن تقولَ شيئاً .. و لكنه وضعَ يدهُ على فمِها و احتضنها بحنانٍ و قالْ: إنه الخوفُ و الالمُ ….. فما ذنبُ البصلِ تقطعيه … ضحكا معاً و لكنَ رائحةَ البصلِ العالقة ِفي المطبخِ لا زالت تستدعي الدمعَ الذي غمرَ وجهيهما.



  • 2

  • راوية وادي
    كاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.
   نشر في 01 ديسمبر 2017  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

Salsabil Djaou منذ 6 سنة
ما اقسى غياب الاب عن الاسرة ،وما اصعب ان تربي ارملة كما في قصتك او مطلقة في قصص اخرى اطفالها بمفردها ،تلعب دورين وتبكي وهي تقطع البصل اعواما حتى يكبر اطفالها وتبكي فرحا وخوفا عليهم وهم رجا ل ،هو قلب الام ،تخبىء دموعها السخية لحنانها على اولادها،قصة رائعة والرسومات التي على مقالاتك رائعة ايضا ،لم اشم بصلا لكن اصدقك بان عيني دمعتا وانا اقرأ،دام قلمك.
0
راوية وادي
شكرا على كلماتك اللطيفة و فعلاً الأم أسطورة كل العصور و بطلة كل القصص.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا