كانَ الصغيرُ يرتجفُ خوفاً كعصفورٍ بلّلهُ المطر، أمسكَ الأبُ بيدِ الصغير وضغطَ بإصبعهِ بقوةٍ على الجرحِ الذي إحمرَ لونهُ و لا زالَ الدمُ ينزفُ منه و أسرعَ به الى العيادةِ الصحيةِ القريبةِ من البيت. لصقَ الطبيبُ الجرحَ الذي لمْ يعدْ الصغيرُ يحسُ بهِ و قد خُدر إصبعه المجروح و قال َ:لا تخفْ يا يوسفَ أنتَ بخير، و لكنه درسٌ تتعلمهُ أن لا تركضَ وبيدك كوبٌ من الزجاج و أنْ تشربَ و أنت جالس. إلتفتَ الطبيبُ إلى الأبِ و قالَ و هو يغمزُ عينيهِ: بعضُ الألمِ يعلمنا الصوابَ .. أليس كذلك يا يوسف؟ أومأ الصغير رأسه موافقاً . و تابع الطبيب موجهاً الحديثَ للأبِ: عليك أن تحافظَ على الجرح َجافاً لئلا يلتهبَ و يتعفنَ، ثمَ وجهَ الكلامَ للصغيرِ قائلاً: سيؤلمك الجرحُ قليلاً و لكنَ ذلك يعني أنكَ قويٌ و أنكَ ستصبحُ رجلاً و أن الجرحَ سيشفى بسرعة.
عادَ ياسرُللبيتِ و عادَ الصغيرُ مهرولاً يختبيءُ في حضنِ والدتهِ ، و في أقلِ من دقيقةٍ يغرقُ في نومٍ عميق. جلسَ على الأريكةِ و لا زالتْ كلماتُ الطبيبِ ترنُ كالجرسِ في رأسهِ .. _بعضُ الألمِ يعلمنا الصواب_، تلكَ كلماتُ والدتهِ له ،و قدْ تذكَر كلَ مرةٍ حزنتْ والدتهُ محاولةً إخفاءَ حزنها عنهُ و عن أخواتِه الصغارِ، كانتْ تهربُ للمطبخِ، و تبدأُ بتقطيعِ البصلِ، فلمْ يكنْ البيتُ سوى غرفتين لا تحتملان على سعتهما و شظفِ العيشِ مزيداً من الحزن و الأسى. كانَ ياسرُ الابنُ الأكبرِ لأبٍ ذهب لمعركةٍ لم تنتهِ و لا يبدو لها نهاية ،و تركَ خلفهُ صبيةًَ حسناءَ و صغارها .كانت الأم تحتضنُ أختهَ أمينةَ و رقيةَ كلما سألتاها أينَ أبيهم ،و تبدأُ بسردِ القصصِ المفرحةِ وإن غالبَ الدمعُ عينها. ذاتَ مرةٍ عادَ من المدرسةِ، و وجدَ أمهُ في المطبخِ تقطعُ بصلاً و لكن هذهِ المرةُ كانَ البصلُ كثيراً و كانت تبكي بحرقةٍ و سألها: لمَ تقطعينَ كلَ هذا البصلِ يا أمي؟ ألا يؤلمك كلُ هذا الدمعِ و يحزنك؟ قالتْ له: بعضُ الألمِ يعلمنا الصوابَ ،و لكنه أمسكَ بيدها و قالَ لها بكلِ براءةٍ أمي كمْ أكرهُ البصلَ .. لا أحبُ رؤيتك تبكين . احتضنها بكلتىّ يديهِ و غمرتهُ رائحةُ البصلِ و بكيا معاٍ و همستْ و هي ترتجفُ : و ما ذنبُ البصل. و بعد أيامٍ قليلةٍ علمَ من عمه ِ أن والدَه فُقدَ و ربما لنْ يعودَ أبداً و سألهُ أن يكونَ رجلاً و أنْ يفهمَ معنى المسؤلية… كلامٌ لم يفهمهُ لسنواتٍ طوال ،و قدْ حرصتْ والدتهُ أن يعيشَ طفولتهُ كغيرهِ من الصغار. لم تكفْ عن تقطيعِ البصل .. و لا عن البكاِء ،و لكنه فهمَ كمْ كانت تعاني و كمْ أحبتْ أن يكونَ أطفالها سعداء. كبرَ و هو يكرهُ البصلَ و يحبُ أمهُ أكثرَ من كلِ ما في الكونِ من أشياءٍ و أشخاص .كان إبناً باراً و صورةً جميلةً لأبٍ ذهبَ و لم يعدْ ،و لكنه في قلبِ و ذاكرةِ الزوجةِ أبداً لم يغبْ. رحلتْ و لكنها علمتهُ أنَ الحياة َلا تقفُ عندَ حضورِ الأشخاصِ أو غيابهم بلْ على قدرِ محبتهِم و وفائنا لهم ، و أنَ الحزنَ لا يقتلُ فينا الفرحَ بلْ ربما يعلمنا الصبرَ و يهدينا سبلَ الصواب.
أحس بغصةٍ في حلقهِ فقامَ من مجلسهِ و دخلَ المطبخَ ليشربَ كوباً من الماء ، و إذ بزوجتهِ تقطعُ بصلاً و الدمعُ يغطي وجهها، كانَ يعلمُ قدرَ خوفها على صغيرها . فتحتْ فمها وأرادتْ أن تقولَ شيئاً .. و لكنه وضعَ يدهُ على فمِها و احتضنها بحنانٍ و قالْ: إنه الخوفُ و الالمُ ….. فما ذنبُ البصلِ تقطعيه … ضحكا معاً و لكنَ رائحةَ البصلِ العالقة ِفي المطبخِ لا زالت تستدعي الدمعَ الذي غمرَ وجهيهما.
-
راوية واديكاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.