تميزت بعض المجتمعات تاريخيا بفهم و -تَفهُّم- بنى معرفية و أنساق فلسفية و نظريات علمية بالغة التعقيد و الإبتهام ، فاستثمرت فهمها لإنتشال وضعها من وضع حضاري أدنى إلى آخر أرقى ، غير أن مجتمعات أخرى تفسخ وعيها و تشرنق فكرها و هي تحاول فهم بضعة أفكار ، دمغتها حينا بدمغة الإنحلال و حينا آخر بدمغة الإلحاد و حينا تاليا بالجالبة للخراب ، أي عدتها معولا يُخَرِّب نسق الفكر التقليدي لهذه المجتمعات المتقادمة .
مثال ذلك ، ما قامت به المجتمعات العربية بمفهوم "العلمانية" ، حيث أفرغته من محتواه الإنساني و شحنته بمضمون طائفي و معادي للدين ، في موقف يعكس أزمة ثقافية و حضارية أكثر من كونه سوء فهم لمصطلح هضمه العالم فهما و تطبيقا إلا الأعراب أصحاب الإسلام الحركي ، إذ لم ينتج في أغلبه إلا الخير للشعوب التي استأمنت مقتضياته لحفظ قدسية الدين و كرامة الإنسان و سلم المجتمع .
من منطلق مبدئي يعرفه الجميع -و ليس فيه من العمق الشيء الكثير و لا هو مصور للمعنى الحقيقي- و هو "فصل الدين عن الدولة" كأشهر تعريف للعلمانية ، حيث وقع على المسلمين فيه أفهام تجل عن العد و الحصر ، لكن أشهر معترضاته ما تنفلج به شفتى الإسلاميين من كون العلمانية "دين جديد" حسب فهمهم السقيم ، أهم أهدافه إقصاء الإسلام ، و فصله عن الحياة ، و أنه مصطلح مستورد لا قبل للشرع و السلف بمحتواه و مقبوليته ، فضلا عن كونه ظهر في سياق تاريخي أوروبي مسيحي مبرر ، غير أن لا مبرر لاستجلابه و استنباته في أرضنا ، إلا تغريب المسلمين عن عقيدتهم و تراثهم ، و من ذلك كله فإن المسلمين مكتفين بدينهم حلا لمعضلات حياتهم ، و هم في غنى عن أن يستعيروا من الكفار الحلول ، بل الإسلام حل لكل المشاكل .
قبل أن نحاولة تفنيد هذه السخافات ، أُسجل أولا الملاحظات التالية حول أسباب عدم تفهم المذهب السياسي العلماني في منطقتنا المنكوبة :
أولا : استيعاب مفهوم أو مصطلح يحيل على تيار سياسي كـ"العلمانية" ، يستوجب امتلاك الإنسان اقتدارا أدنى -على الأقل- من زاد المعرفة التاريخية الخاص بالإسلام في شقه السياسي من جانب ، كي يتعرف الإنسان على الكوارث و الحروب التي وقعت بسبب السياسة الدينية في الماضي (14 قرنا من الحرب التي لم تتوقف حتى اللحظة) ، و من جانب آخر معرفة السياق التاريخي الذي ظهر فيه تيار الفكر السياسي الذي اقترح العلمانية كحل لمشكل اجتماعي و سياسي في إطار عام ، يتجاوز و يتسع الخصوصيات الإنسانية ، و هذا يستوجب جمهورا مثقفا ، غير أن في وطننا العربي أو الإسلامي "أغلب الشعب جهلة/أميين" ، حيث يقدر عدد الأميين في الوطن العربي اليوم بحوالي 70 إلى 100 مليون نسمة (حسب بيان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الصادر بتاريخ8 يناير 2013) ، و به يتضح أن ذلك من أهم أسباب عسر فهم ما هو جديد ذا الخصوصية المعرفية/العلمية/السياسية المنبثقة من خارج دائرة المقدس ، سواء كان ذلك مذاهبا سياسيا أو فكريا أو دينيا .. إلخ .
ثانيا : أعتقد أن "ثقافة" هذه المجتمعات التي يهندس شكلها الدين بمفهومه التاريخي/السلفي ، و التي تحتكر الحقيقة و المستقبل و المصير داخل دائرة دينية منغلقة تجسد عالم الخير كله ، فضلا عن اتخاد موقف حدي من الآخر (الغير مسلم) ، و اعتباره أو وصفه بكلمة "كافر" الشيء الذي يخرجه من عالم الخير/عالم المسلمين ، و يسكنه عالم الشر ، بذلك يصبح أي شيء ينتجه هذا الآخر/الكافر يجسد الشر تبعا للعالم الذي يسكن فيه حسب ميثولوجيا أو تصور أهل عالم الخير ، و بذلك فإن العلمانية إذا كانت من صنع الآخر فهذا يعني أنها شر ، ما يعني أنها لا يمكن أن تُتَفهم أو أن تُتَقبل حتى لو كانت تحرص على العدل و تكفل الكرامة و تقعد للمساواة و غيرها من القيم الإنسانية النبيلة .
ثالثا : أغلب من ينتقد السياسة العلمانية من العوام أو من النخبة الإسلامية ، لا ينتقدها من الجانب الإقتصادي أو السياسي ، بل ينتقدها "أخلاقيا" ، بمعنى يقولك لا نقبل العلمانية حتى لا تتبرج النساء ، و لا تخرج العلاقات الجنسية عن إطار الزواج ، و حتى لا تتحلل قيم المجتمع بالحرية ، و كي لا نبتعد عن منظومة قيمنا المقدسة و حتى لا يتعطى أبنائهنا الموبقات و يماسون الفسق و ينسون عقيدتهم ووو ... وهكذا ، إذ بصرف النظر عن مفهوم الأخلاق و عن نسبيته و اختلاف معناه من مجتمع لآخر ، فما يعتبر في مجتمعنا أخلاقيا "كاللباس المحتشم" ، يعتبر في مجتمعات أخرى شيء عادي كلباس المرأة في افريقيا و غابات الأمزون الشبه عاري ، أي يوجهون نقدا للعلمانية تحت معنى أجوف للأخلاق ، أما من الجانب الإقتصادي و السياسي فينصرفون عن النظر باتجاهه و لمس مكتسابته ، حيث تتربع الدول العلمانية على عرش الدول القوية اقتصاديا و السلمية اجتماعيا و الناجعة سياسيا ، و هو ما يخلف ظروفا حياتية جيدة تتميز بالرفاهية و الرخاء ، فضلا عن انحصار الجهل في هذه المجتمعات التي تقدس العلوم و الفلسفة و الأدب و ليس الخرافات و الأباطيل ، ما يجعلها تتبوء صدارة الدول المتعلمة و المثقفة ، إذ أن كل هذه الإجابيات يُضرب عنها صفح من طرف الإسلامي ، لأن الدول العلمانية تسمح للنساء بوضع أحمر الشفاه و ارتداء تنويرة قصيرة ، حيث امرأة تَضعُ النقاب و جاهلة ، أفضل عند الإسلامي من امرأة مثقفة تلبس تنويرة أو سروال عصري .
أما من جانب آخر ، فلا يستفرغ صاحب وعي سليم كبير وسع ، إذا أراد تبين تهافت و سخافت هذه المعترضات ، أو الرد على القائلين بها ، و التي تسقط أمام التجربة و الواقع الإيجابي للدول العلمانية على جميع المستويات ، فلا يوجد مجتمع علماني واحد فوق البسيطة لا وجود للدين في حياته ، بل الدين يُفصل عن السياسة فقط ، و لا يُفصل عن المجتمع أو الأفراد كما يدعي الإسلاميون ، إذ يحصل هذا الفصل لمقتضى العدل و الحفاظ على السلم ، حيث لا يخلوا مجتمع من تعدد و تغاير في الأديان و الطوائف و الثقافات ، إذ يحصل الخلاف حول من يحكم ؟ و يؤدي إذا لم يحصل التوافق ، إلى الصراع و التحارب ، و هو ما يُذهب الأمن و يُخرب العمران و يُدنس المقدس و تَتَدنى بسببه إنسانية البشر إلى ما دون البربرية ، ذلك ما تحلحله العلمانية بأن تفصل كل الأديان و الطوائف و الثقافات عن الحكم ، و بدلا لذلك تصوغ دستورا يحمي كل هذه الأديان في إطار إجتماعي و فردي تقف فيه حرية الفرد عند حرية نُظرائه في المجتمع ، و كما تضمن به مشاركة كل ذي دين أو لادين في شؤون الحكم و المجتمع و السياسة ، و غيرها من ضروب الحياة المدنية .
أي ما يضمن للإنسان منتهى حقوقه في المشاركة السياسية بقطع النظر عن دينه و طائفته و إثنيته ، فما يحدد ذلك هو شيء يُقال له "المواطنة" ، أي ما يتبث انتمائك لوطن و يضمن حقك في ثروته و مشاركتك في تدبير شؤونه السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و يقطع بنصيب حقوقك و حريتك في فضاءه ، ليس دينك أو مذهبك أو تقاليد قبيلتك ، بل فقط انتمائك إلى سقع من أسقاع هذا الوطن ، و هو ما لا تكفله السياسة الدينية الإسلامية التي تقوم على الإقصاء و عدم الإعتراف إلا بأتباع دين واحد غالبا ما يكون دين السلطان ، حيث يشكل فيها الإنتماء لدين الإسلام حصرا شرط ممارسة السياسة و اعتلاء مناصب الدولة و التمتع بالحقوق الإجتماعية و السياسية و غيرها ، عكس السياسة العلمانية التي تضمن هذا الحق البديهي و هو المتمثل في الإقرار أو الإعتراف "بحق الفرد أن يوجد كما يريد هو و ليس كما تريد له الدولة أو المجتمع أو الدين" ، إذ ذاك لا يحجبه عن حقوقه ، أي أن العلمانية تكفل حرية الضمير و المعتقد و التدين و الفكر و الكلمة/الصحافة و المشاركة بكل أنواعها دون التفاتة لأديان المواطنين ، و هو ما تصفوا عبره المشارب للناس و تنقشع من خلاله غمة القمع الديني و التعسف السياسي .
يتجلى بهاء السياسة العلمانية و يكفهر وميض نظيرتها الإسلامية ، إذا ما اطلعنا على مقتضيات كل منهما فيما يخص علاقة المحكومين بالحاكم ، حيث تنص العلمانية على أن العلاقة بين هذين الأخيرين "تعاقدية" ، أي أن الحاكم يرتبط بالشعب بموجب عقد يتضمن بنود معينة ، إذا استعاض الحاكم عن هذه البنود إنكارا أو نفيا للإلتزام بها ، حُق آنذاك للشعب أن يفسخ هذا التعاقد فيبحث عن مترشح آخر وَفِيٍّ زيادة عن سابقه ، و هكذا يتم التداول السلمي عن السلطة بما يضمن للشعب حقوقه و يحصن منصب القيادة من طوائش التوتاليتارية و الطغيان ، هذا علمانيا .
أما إسلاميا فيطلق أولا على الشعب "الرعية" ، و على الحاكم "ولي الأمر" و هما تسميتان قدحيتان متأثران بالإطار الإجتماعي البدوي الذي ظهر فيه الإسلام ، حيث تنص سياسته عن كون العلاقة بين الحاكم و الرعية تتحدد بـ"بيعة" على وجه التأبيد ، و إذا حصلت البيعة فمال الحاكم إلى الإستبداد و الظلم و القهر و التفقير و الجبر على ما لا يتحمله الشعب ، تنص فقهيات السياسة الإسلامية على عدم أحقية هذا الأخير إلا الصبر و التضرع إلى السماء فقط ، ذلك ما لم تطقه جماعات في الماضي و الحاضر فاندفعت نحو الثورة ضد الطغاة ، من ذلك اختضب التاريخ السياسي للإسلام و المسيحية بالأحمر (بالدم) ، و بذلك فلا تضمن سياسة الدين تداولا سلميا عن السلطة و لا تُحَجِّم سلطات الحاكم كي لا يَطغى و لا يَستبد ، و هو ما يقوض أسس السلم و ينهك الحياة السياسة و يقضي على ضرورة الأمن و الكرامة .
و بذلك يتضح أن العلمانية ليست دينا جديد ، و إنما "قواعد سياسية" جديدة فقط ، تضمن تحقيق العدل و المساواة و تكفل حقوق المواطنين كيفما كانت أديانهم و أعرافهم ، كما تُجنب كرسي الحكم من أن يَقتَعد عليه طاغية أو ديكتاتور ، و بذلك يكون النظام العلماني هو الإطار الذي تتعايش فيه الأديان ، و ليس الإطار الذي تُقصى فيه الأديان كما يدعي الإسلاميون ، العلمانية تخلق حيزا تَنصهر فيه الخصوصيات الثقافية و تمنع تكالبها عن بعضها حتى لا تؤدي إلى الخراب ، أي أن الأمر يتعلق بسياسة دنيوية و ليست دينية ، "فالعلمانية لن تزيد في عدد ركعات الصلاة ، ولن تُغير شهر الصوم إلى شهر غير رمضان ، و لن تبدل وجهة الحج أو اتجاه القبلة ، و لن تزيد و تنقص في نصاب الزكاة" ، أبدا فعبادات الناس لا مساس للدولة فمقتضياتها ، بل تتدخل فقط لتدبير ما هو مشترك بين المواطنين في حياتهم "الدنيانية" حصرا ، و يبقى الجانب الديني متروك حرية ممارسته في الإطار الفردي و الجماعاتي للأفراد كما يشاؤون ، دون فرض أديانهم عن بعضهم البعض .
كما لا تفوتني المناسبة ، للرد على ذريعة كون عدم تقبل العلمانية من طرف الإسلاميين ، لأنها نشأت في تراب غير ترابنا و أرض غير أرضنا ، نقول لماذا لم يطرح هذا السؤال الهنود و الكنديين و اليابانيين و الصينيين و السنغافوريين و الأستراليين و النيوزيلانديين و غيرهم من شعوب الدول العلمانية ، هل العلمانية نشأت في أرضهم و في ثقافتهم ؟ قطعا لا ، فهم لم ينظروا إلى مسألة نشوء العلمانية في بلد غير بلدناهم كشيء صالح و ناجع لتسيير أمور السياسة و الحكم ، كمعترض يحول دون تقبلهم لهذا الشيء ! و لنأخد مثال الهند ، التي لم تظهر فيها العلمانية تاريخيا أبدا ، حيث كانت تعاني من معظلة الإقتتال بين المسلمين و الهندوس و البوذيين و غيرهم ، فضلا عن معاناتها من التخلف و العجز ، ثم تبنت الهند سياسة علمانية لحل مشاكلها الإجتماعية و الدينية و ذلك ما كان ، حيث قطعت الهند تماما مع معظلة التعصب و الطائفية و العنف الديني ، كما أصبحت الهند بعد ذلك من أبرز القوى الإقليمية و الدولية اقتصاديا و عسكريا و صناعيا بل حتى علميا ، حيث أصبح هذا البلد العلماني حديثا يحطم أرقاما قياسية في بعض مجالات التنافس الصناعي كصناعة الأقمار الصناعية .
هكذا يتضح أن مبدأ العلمانية قابل للتطبيق في أي بلد و ينذر بنتائج ايجابية ، بقطع النظر عن الخصوصيات الثقافية لهذا البلد ، التي لا تُقصى و إنما تُنمى و تتعايش مع مقتضيات الإختلاف و التغاير في عناصر الثقافة و أطوار الزمان .
فواضح مبلغ حاجة أوطاننا لسياسات مدنية ، بدل السياسات الدينية التي خربت و لا تزال مجتمعاتنا مساهمة في انهيارها ، فجلي عن البيان أن واقع العنف في الوطن العربي يقوده التيار الإسلامي و ليس العلماني ، ما يجعل الإنتقال إلى مجتمعات السلم و المشاركة ضرورة تقتضي "العلمنة" ، أما الأسلمة فقد أبانت نتائجها الكارثية في سوريا و العراق و مصر و ليبيا و أفغانستان و قبل ذلك في الجزائر ، فضلا عن التاريخ حيث مسرح مجازرها لم أراد أن يتعض ، و أخيرا نقول أن التأخر في تفهم و تبني مشروع مدني/علماني للخروج من حالة العطالة التاريخية لن يزيد المنطقة إلا تمزقا ، و ما موجة نزعة الإنفصال في الوطن العربي إلا خير دليل على فداحة السياسة الإسلامية و الطائفية التي تمشي في ركابها هذه الدول التائهة .