إلى روح خالتي الطيبة ....
الجوهرة الكريمة
تقف بين الأحزان والجوع و الفقر و الحرمان ، مشرئبة العنق عالية الهامة مرفوعة الرأس تتجاوز المحن و تراوغ الصعاب و تنير الدروب.
وقفت دائما حاملة آلام أسرة وعائلة ووطن ، تجرعت الأوجاع و كابدت الصعاب و مشت حافية القدمين على الشوك و الجراح و الحاجة ، غير عابئة بالألم و لا الحرمان و لا الدم و لا الآهات.
جاهدت و قاتلت لأجل قوت اليوم و العام ، و تحملت أعاصير ضيق الحال وزلازل المرض و أهوال الجوع و الخوف و الذعر من المجهول ، دون أن ترتكز على قلب قريب أو سند ثابت بل المولى القهار كان الرفيق الوحيد ، و الضمان المتين بعدما انغمست في الوحدة مبكرا بعد رحيل صاحب الدار و البيت و شريك الحياة وهي في عنفوان الشباب ، فتجشمت عناء القوت و دأبت على حماية الصغار و على حسن تأديبهم و تكوينهم على مجابهة العسير، و تطعيمهم بلقاح الشرف تماما كما حملت هي تاج الطهارة و العفاف و الحياء.
هي التي جرت على أصابعها وأناملها الروائح الزكية لولائم الأعراس و المناسبات العائلية ، هي التي رسمت البسمة على قلوب الحضور و الغياب بطرائفها و مواقفها و حيويتها ، فتذوق البدو و الحضر في البادية و المدينة حلاوة أطباقها و احتموا بقوة حضورها و حكمة آرائها.
فكل من يستعرض السنوات و الأعوام الخوالي من الأهل و المعارف ، سيلمح لا محالة تلك التي عصفت بحياتها و بشبابها و بأيامها الرياح الهوجاء العاتية القادمة من كل مكان ، فلانت لقوتها و حافظت على رطوبتها و جعلت من أغصانها التي تتمايل إلى كل جانب صامدة فلا تنكسر في عز الأزمة، بل و تبقى شامخة مدرسة العالم أن السقوط ما بعده إلا الهمة العالية ، و أن استخلاص الرسائل يجعل من الضربات التي لا تقسم الظهر ينبوعا للقوة و الإباء.
في الحقيقة كانت الوطن الذي جمع المحبين و الأهل و سكان الديار ، كانت الكتاب الذي حمل رواية أجيال على الرغم من تفكك أوراقه المبعثرة ، فلا يستيقظ البيت و لا الأسرة و لا العائلة و لا الأهل و لا يجلو الظلام و الحزن ، إلا لما تستيقظ وتشرع في استقبال شكاوى الأخت و العمة و الخالة و الزوجة مانحة للجميع حق اللجوء.
الواقع الذي يتكرر معنا دائما هو أننا لا نتذوق الطعم إلا بعد الفراق والرحيل ، و لا تزهو الأعين بتوهج الجوهرة الكريمة و اللؤلؤة المصونة إلا بعد أفول النجوم ، فتدرك ساعتها أن الكبار ينيرون الليالي الدهماء بالشمعة المقدسة حتى و إن ضاق الأفق ، و اختزلت المساحات فيتسلحون بالكرامة و العفة و الشرف ملهمين الصغار و الكبار و قراء التاريخ.
عليك رحمات الله يا خالتي زواوية ، يا جنة الله في أرضه ، و يا عود المسك الذي كلما أحرقته صعاب الأيام فاح شذاه ، و يا الشجرة التي غطت الغابة معطية من دون انتظار المقابل ، فبقدر ما أراك دائما و أتلمس طيبتك من خلال دموع أمي كلما طفت الصورة للسطح في أوقات الانكسار والحنين ، بقدر ما تحتفظ ذاكرتي بصورة المقاتلة التي لا تتراجع أبدا ، التي أبهجت و أفرحت وساندت بكل بساطة لأنها من المعدن النفيس الثمين النادر.
محمد بن سنوسي
19-06-2019
-
بن سنوسي محمدمدون حر اطرح افكاري و اسعى للمشاركة في اصلاح المجتمع