مازلتُ مدينة لذاك الفضول الذي كان يعتريني كلّما مرّ عليّ ذكر الحقبة الممتدة من خفوت المقاومة الجزائرية إلى حين اندلاع الثورة، فلطالما تساءلت كيف يمكن لعزائم اجيال كاملة ان تخبو على هذا النحو وتميل إلى الوداعة والاستلام ، لا بل كنت اعجب كيف تتميع المبادئ وتنقلب الموازين ويفكر المظلوم -بطريقة ما- في التماهي مع جلاده، ويحاول أن يعتلي تنازلاته طمعا في أن يتساوى معه على أرضه وفي ساحته! .. كنت أحاول دائما أن أفهم كيف يمرّ مشروع استعماري سافر كهذا على جسد شعب بهذه البساطة ، وكيف يعيش جيل كامل على كفّة اللامبالاة تارة وعلى عتبة الرضوخ تارة أخرى...!
هل كانت أزمة وعي فعلا؟ أم أنها كانت أزمة توصيف دقيق وواقعي للوضع آنذاك ؟
الآن والحمد لله لم يعد لديّ أي فضول ولا استهجان تجاه هذا الأمر ، لأني ببساطة اكتشفت أننا نعيش في الحقبة الموازية لهذه الفترة بالضبط ! فثمة وجود استعماري حقيقي غير أننا لا نستطيع تبينه عيانا لنحاول بعد ذلك امتلاك آليات جدية لمقاومته والوقوف في وجهه، الوجدان الجزائري لا يزال مؤمنا بقوة بأسطورة الاستقلال، ولو أنه يتحسس مظاهر الوجود الفرنسي في معظم مناحي الحياة اليومية إلا أنه دوما يكابر على هذه الحقيقة و يتخطاها توهما بنصر أكل عليه الدهر وشرب!
نحن في الجزائر في حالة خدر فكري تماما كما كنا قبل الثورة ، إذ أننا لا نستطيع تحسس مشكلتنا الجوهرية، وإن حدث ورصدناها أخطأنا في توصيفها وتشخيصها ! فالوعي بوجود المشكلة لايعني التشخيص الصائب بالضرورة، لنقل أنّنا تماهينا مع المشكلة ، بعد أن تم تطبيعها وتكييف مدركاتنا ووعينا مع مظاهرها، فلا ضير لدى الجزائري أن يتعامل بموجب المخلفات الاستعمارية من ثقافة وفكر ولغة واقتصاد وحتى سياسة .. الأمر بالنسبة إليه اضحى محض انفتاح لا بد منه ، وفي هذا الصدد يظهر التطابق العجيب بين حالة الجزائري قبل وبعد الثورة ، وكأننا نعيش نفس تفاصيل العشرية الثانية من القرن العشرين ليبقى المثل قائما كعلامة تعجب : وكأنك يا زيد ماغزيت!
وعدا هذا ، نحن نعيش مرحلة "أخرجوهم من قريتكم إنهم اناس يتطهرون" مرحلة المعايير المعكوسة والموازين المقلوبة " مرحلة الفشل الاجتماعي والاخلاقي الذي لايؤمل منه اي نجاح على أي صعيد آخر ..
ثم إن أسوء مايطبع عصر الرداءة الذي نشهده هو غياب مرجعية موثوقة نتكئ عليها في ايّة محاولة للنهوض، في الجزائر لا توجد اية قامة سياسية جديرة - ولو كانت مؤدلجة- يلتف حولها الشعب ، تماما كما تنعدم فيها المرجعية الدينية والفكرية فنجدنا دائما في حالة "تسول" شرقا وغربا بحثا عن مرجعية تليق بالمقام .. ولا أحد يعلم إن كان السبب عائدا إلى رداءة الموجودين على الساحة أم أنها عقدة الجزائري الشهيرة تجاه "المنتوج المحلي" ..
الخلاصة من كل هذا أننا أصبحنا فعلا بحاجة إلى ابن باديس جديد وجمعية علماء جديدة تصلح فشلنا الأخلاقي والاجتماعي وتشذب اعتباراتنا التاريخية والهوياتية قبل أن ننطلق إلى اصلاح سياسي حقيقي بناءًا على اعتبارات واقعية دقيقة.. الأمر يحتاج إلى بداية صفرية محضة تُعاد فيها كل السيناريوهات التي سبقت ولكن بإخراج مختلف يتناسب مع خصوصية المرحلة ..لابد من تحرك حقيقي فنصاب الرداءة قد اكتمل ، ووقت التغيير المثمر قد حان !
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف