رقي الحياة في حياة الرقي / بقلم: عبــــاس مسالمة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رقي الحياة في حياة الرقي / بقلم: عبــــاس مسالمة

بقلم : عباس مسالمة ... مراجعة : رغـــــد خميس

  نشر في 19 يوليوز 2014 .

   الحمد لله برهان كل شيء، يستدلُّ به ولا يستدلُّ عليه، ثم صلاةٌ على المعلم العالم إلى حيث لا حيث، ثم بعد:

   الرقي كلمة تحمل في رحمها جبّة من أجنّة الدلائل والمعاني السامية، التي تضفي شيئاً من تحامل النفس للتعالي عن كل ما هو سخيف دنيء لا تستسيغه النفس البشرية بفطرتها، تحمل العلوّ والسموّ، وترفض مرادفات الدنوّ، كيف لا وقد آنسنا بها رب العزة بآية فيها قبس من وقعٍ يؤنسُ قارءها :   " أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ " ، فالله تعالى ربط الرقي بالسماء لنفهمَ تماماً أنّنا دائماً أمة تتسم بكل ما هو سماوي السمة، وترفض كل حضيضيّ الوَسم، فالرقي سماوي الشرط.

   مجتمعاتُ الله في أرضه كثيرة، من المشرق إلى المغرب ومن الهند إلى السند، وقد حبا الله كل مجتمع منها بتكتيكات وَسْمية تتبناها تلك المجتمعات تبعاً واستناداً لأيديولوجية ما، بشكل أو بآخر فلكلٍ منها موسيقاه الحياتية، فطريقة عزف النوتات تختلف باختلاف حنكة العازف، ولكن ومع شيء من التمييز فإنّ مجتمعات الإسلام ميّزها الله بثيولوجية ربانية تستنبط شعاعَ نورِ مبادئها من السماء، نعم أقول من السماء، فهي إذن محقِّقَة لذات الرقي بشتى أبعاده وصوره، كيف لا وقوامُ سقياها من السماء ؟ اتفق وإياكم وكل المحققين من أهل العلم والمعرفة أنّنا أمة سماوية راقية ذات نفحة عُلوية فوق الثرى بنص دستوري قرآني.

  الرقي مولود العقيدة والدين، فهو سراج سماوي يضيء حنايا كل بيت حتى لو كان ترابيّاً قديماً، هو بذاته لمسة فنية ساحرة تنبض بالجمال في كل موجودات الكون، الرقي صوتُ بلبل شادٍ يغرد على حافة ساقية، هو عصفور يزقزق على مآذن كل مجتمع، إنه حناجر تصدح بسيمفونيات الأخلاق والفكر.

   فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً .. ببردةٍ كاد طول العهد يبليها، بهذه الكلمات وصف شاعر النيل حافظ إبراهيم رقي حضارة عمر مقارناً بحقارة ودنو حضارة كسرى. عمر الذي علّمنا أنّ الرقي شجرةُ فكرٍ نسقيها بماء المعرفة لتنمو ثم تنمو لتثمر حياة وحرية وسعادة وتقدم وازدهار. لله درُّك يا عمر، حكمت فعدلت فأمنت فنمت قريرَ العين هانيها بلا جند وحرّاس، علمتنا أن الرقي لا تجسده قصور مزركشة تلبس طرابيش القرميد معانقة قمم الجبال، ولا أبراج تناطح السحاب تبرق بحللٍ من الزجاج والمعادن، أقنعتنا سيدي أن الرقي لا تمثله تلك البدلة التي تغطي كرشاً تتدلى على سطحه ربطة عنق طويلة مجمّلةً بحذاء يلمع، الرقي ليس في سيارة فارهة المنظر تقف في فناء منزل تترامى فيه حدائق وأشجار، ولا قطارات ولا طائرات تمخر بحار الفضاء بلا قيد أو حدود، لا يتحقق الرقي البتة بأسواق ومهرجانات تقودها أيدي تجار ماسونيين لتسويق وترويج بضاعتهم، عنوان الرقي لا يكون أبداً لكتاب يتضمن أساليب جمع أموال ومصالح مادية يستنكرها شياطين الجن لو نظروا.

   نقف محتارين، رافعين حواجبنا متعجبين بالمسار الحديث في مجتمعاتنا لتعريف وفهم الرقي الذي ما فتئت أراه كبضاعة تستورد وتطرح في الشوارع والأسواق ليتداولها خاصة الناس وعامتهم، فكر المادية الديالاكتيكية البائسة. من قال أن الرقي يتمثل في رأس تعلوه مسامير شعر مصففة، أو بنطال يكاد يسقط من عليه، أو لفّة حجاب ولباس عارٍ يوقد نيران مراجل الغرائز البهيمية ؟ من استهتر بعقولكم الهشة حين قال أن الرقي في تنغيم وتنعيم الصوت لحد يخلط بين الجنس الآدمي؟ من قال أن الرقي يكون بمعجم أعجمي مرقق الألفاظ، مستورَد المعاني والمفاهيم ؟ كلمة (أوكي أو باي أو ماي لف) لا تحقق لشخصك ومجتمعك أدنى درجة من الرقي المنشود، الرقي يا سادتي ليس بموضة أو ماركة أو صرعة بالملابس والأزياء المستوردة - التي عجزنا بفسادنا أن نصنعها - لتصل لعمق حضارتنا الوهمية.

   لم يعلمني ربي أن الرقي هو بغمزة غزل، أو بحب شوارع، أو بعلاقة حيوانية مع صبية لا تدري ولا تدري أنها لا تدري، لم أتعلم أن الرقي في حَمْل هرة، أو اصطحاب كلب، أو احتضان قرد، كل هذه الأشكال وما هي على شاكلتها ليست رقي الحياة المقصود البتة. 

الرقي يعني كل شيء ينتج الحضارة فكريّاًّ وروحيّاً وماديّاً، أبٌ يخدم البشرية وأمنَها وسلامَها وسموَّها وتقدمَها في شتّى مناحي الحياة الإجتماعية منها والإقتصادية والعقائدية وسياسات الحكم، هوأمٌ تغرس في أبنائها بذور العلم لتزهر ورود تعبق الأجواء برائحة التقدم والإزدهار. فكل قوة في العالم لا تسخّر لتحقيق سموّ وسعادة البشرية ليست رقي يؤول لحضارة، بل هي حقارة وكذب وهيمنة وجشع يُخضعُ رقابَ الأمم لنزواتٍ عمياءَ، وتجعل منها قطعان ماشية يسوسها تيوسٌ مستعارة كاسرة، تقتل وتحتل وتنتهك وتسلب، تصادر معتقدات وآراء، وتسبي فكرَ التقدم وأحلام الحضارة، الرأسمالية العالمية المخصَّصَة المحتكرة، تتاجر بالإنسان المقدَّس، تشتري حريته لا بل حياته .. أهكذا رقي الأمم ؟ جبروت وعجرفة تعيد التاريخ إلى ما قبل التاريخ، همجية وطغيان وفساد يؤول للكساد.

 الرقي منحة إلهية، تنمو بالقراءة والفكر والمعرفة والجد في طلب كل أشكال العلم بكل مناحي حياة المجتمع، لنتصرف بعلم بحت، ونتكلم بكَلْم لسانٍ لا يَنْكى بالآخر، ليعبِّر عن سموٍّ عقليٍّ وروحيٍّ يمتزج وقوانينَ الطبيعة والكون، ليعزِّز كلَّ معاني القيم والمُثُل العليا والأخلاق الربانية المحمّدية، الرقي قبس من نورٍ يحرِّر الإنسان من قوانين الاستعباد الاجتماعي، من الجهل والتخلف، هو آية تكنز في كواليسِها معاني الذوق الرفيع والطبع المنيع الذي ينبت حسن المعاملة وأدب لَبِق في التصرف والكلام، الرقي صدق يزين الأقوال، وزينة تحلي الأفعال.

قد يسهب الكلام في الرقي، ولكنه سماوي المنشأ، محمدي الطبع، يقوم بسيادة القيم الإنسانية الإلهية المحمّدية، علينا أن نقرأ كثيراً لنفهم الفهم السليماني، ونعلم العلم الإبراهيمي، حينئذ نحقق حياة الرقي في أوجها، ليكون في أسمى وجوه رقي الحياة، وليس ذلك لأحد إلا للذين يعيشون مع الحرف، ويصاحبون المعاني، إلهيو الوَسْم، يرون الله دائماً وهو من قال فيهم: "يا عبدِ خَلقتكَ عَلى صُورَتي واحِداً فَرْداً سَميعاً بَصيراً مريداً متكلّماً، وجعلتك قابلاً لتجليات أسمائي ومحلّاً لعنايتي، أنت منظري لا ستور مسدلة بيني وبينك، أنت جليسي لا حدودَ بيني وبينك، يا عبد ليس بيني وبينك بيْن، أنا أقربُ إليك من نفسك، أنا أقرب إليك من نطقك فانظر إليَّ فإني أحب أن أنظرَ إليك". بهذا يكون رقي الأمم والحضارة المحمّدية التي ترقى بنا إلى السماء. سيدي .. سيدتي، كن أنت إلى حيث السماوية راقياً بذاتك، مزيّناً بثوبِ العلم والمعرفة، صاحبَ ذوقٍ بأدبك، ترنو لحضارةٍ تبدأ من ذاتك وعلاقاتك وتصرفاتك وتعاملاتك، وإيّاك أن تكون سراباً خادعاً، أو إمّعة تساق كما يساق القطيع إلى حيث لا يدري، كن ميتافيزيقياً بفكرك، عملاقاً في رقيك المعرفي، ولتكن صاحب نفس توّاقة، كعمر بن عبد العزيز الذي قال : "إن لي نفساً توّاقة ، ما تمنت شيء إلا نالته، تمنّت الإمارة فنالتها وتمنت الخلافة فنالتها، وأنا الآن أتوق للجنة وأرجو الله أن أنالها"، كن رئبالاً و لا تقنع بما دون النجوم. 


                                                                                                  عباس 


  • 7

   نشر في 19 يوليوز 2014 .

التعليقات

مقال رائع مودتي و تقديري على الحس الراقي
0
رغد خميس منذ 10 سنة
رائع جدا ينم عن رقي الأفكار
0
عباس مسالمة
شكراً رغد .. سعدت كثيراً بكونك طرفاً هاماً في مقالي ..

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا