ضائعٌ بين أقرانه الجزء الثّاني (5)
نشر في 09 يوليوز 2024 وآخر تعديل بتاريخ 09 يوليوز 2024 .
رشيد مصباح (فوزي)
mosbahf933@gmail.com
الجزائر
**
جلبة من حولي لبعض الشبّان اليافعين الذين هرعوا الى الشّرفة لمشاهدة الجزر الصغيرة ومن حولها النوارس البيضاء تحوم بأجنحتها الواسعة ثم تقترب من الباخرة شيئا فشيئا؛ كأنّها ترحّب بقدومنا، أو تريد معانقة الباخرة ومن فيها.
سمعتُ أحدا يقول: هذه بشارة خير.
فهمتُ من كلامه أنّه لم يتبقّى الكثير للوصول إلى مدينة مرسيليا.
بقي من بقي على الشّرفة ورأيتُ فيها فرصة سانحة للتسلّل إلى داخل الباخرة، يدفعني الفضول وحب الاستطلاع، لأجدني في الطابق العلوي أتسكّع بين الغرف كلص محترف.
رجعتُ أدراجي، فوجدتُ أبي في انتظاري وسألني عن سبب الجلبة فأخبرته بما سمعته من بعض المسافرين، بأنّه لم يتبقّ الكثير للوصول إلى اليابسة. وعرفتُ من خلال ابتسامة الشرطي ”الماكر“، كأنّه كان على علم بكل ما يجري، لكنّه أراد ”جس نبضي“ لا غير.
توجّهتُ بعدها مباشرة إلى طاولة بمطعم الباخرة، وما أن رفعتُ قدمي الأولى حتى أخذت الباخرة تموج بنا؛ كأنّها عجوز تتهادى، وأصيب بعض الحاضرين بدوار البحر ، وتقيّأ بعض منهم على ثوبه وحذائه وأخرج ما في جوفه.
تلاها نداء عبر مكبّرات الصوت لسيّدة تطلب منّا التزام أمكننا وتفقّد امتعتنا.
وأخذ بعض الركّاب يتهيّؤون للمرحلة القادمة، فبادر بعضهم إلى تفقّد أمتعتهم والوثائق القانونية والمصرفية؛ و من بينهم أشخاص قد أثاروا الشكّ من حولهم بتصرّفاتهم المشبوهة، كانوا كأنّهم يبحثون عن مكان لإخفاء بعض الأوراق النقدية.
ثم بعدها نداء آخر للمسافرين، هذه المرّة لقائد الباخرة، يتمنّى لنا إقامة طيّبة.
وبدأ العد العكسي ومعه بعض الأفكار تخالجني؛ منها الحسن ومنها الرديء، وبعض الأسئلة تراودني؛ صاحبها المتحمّس في حاجّة ماسّة لرؤية هذا المجتمع الرّاقي، والذي سمع عنه، وقرأ عنه الكثير.
ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ هي نفس الأفكار التي ظلّت تراودني. ولكن تأثيرها هذه المرّة كان مختلفا. وانعكس ذلك على سلوكي وتصرّفاتي، وبدأتُ أشعر كأنّني شخص آخر. وتخلّصت من الرّهاب اللّعين الذي تسلّط عليّ، ومن كل تلك العقد التي لوثّت حياتي.
كل شيء أخذ يتغيّر من حولي، لون المياه.. الوجوه من حولي.. رؤيتي للواقع.. والدي الذي كأنّني لم أعرفه سوى في تلك السويعات التي قضيناها معا!
ما أغرب هذا العالم، وأغرب منه هذه المشاعر والأفكار التي بدأت تنتابني!
يتبع..